بعد ذكر بعض التفاصيل ، والمراد منه : كل ما تمكن المساواة فيه من الأطراف كالقدمين واليدين ، ومن الجراحات المضبوطة كالموضحة ـ مثلا ـ وهي التي توضح العظم ، أي تكشفه. أما الذي لا يمكن القصاص فيه كرض في لحم ، أو كسر في عظم ففيه حكومة.
وفي قوله تعالى : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ) الضمير في (به) يعود إلى القصاص وقوله : (فَهُوَ) راجع إلى التصدق الدال عليه الفعل ، والضمير في (له) يحتمل أن يعود إلى العافي المتصدق.
روى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من تصدق من جسده يشيء كفّر الله تعالى عنه مثل ما تصدّق» ويحتمل رجوعه إلى الجاني المعفوّ عنه ، أي لا يؤاخذه الله تعالى بعد ذلك العفو ، وأما المتصدق فأجره على الله تعالى.
ثم ذيل الله تعالى هذه الأحكام بما يوجب العمل بها ، وهو قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي ومن لم يحكم بما أنزل الله من الأحكام والشرائع فقد تعدّى حدود الله ، ووضع الشيء في غير موضعه. قال الرازي : وفيه سؤال ، وهو أنه تعالى قال أولا : (فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) وثانيا (هُمُ الظَّالِمُونَ) والكفر أعظم من الظلم ، فلما ذكر أعظم التهديدات أولا فأي فائدة في ذكر الأخف بعده.
وجوابه : أن الكفر من حيث إنه إنكار لنعمة المولى ، وجحود لها ، فهو كفر ، ومن حيث إنه يقتضى إبقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم على النفس ، ففي الآية الأولى ذكر الله ما يتعلق بتقصيره في حق الخالق سبحانه ، وفي هذه الآية ذكر ما يتعلق بالتقصير في حق نفسه (١) اه.
قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨))
قد أمر الله تعالى في أول السورة بإيفاء العقود ، وقد قالوا في تفسيره : إنّ ذلك شامل للوقوف عند حدود الله ، والتزام ما أحله الله ، واجتناب ما حرمه ، وعدم تعدّي تلك الحدود ، وقد نص بعد ذلك على عدم إحلال ما حرم الله في قوله : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) إلخ. وهو نوع من إيفاء العقود ، وفي هذه الآية يقول الله تعالى : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) وهو بيان للنوع المقابل لما ذكر أولا. أي كما نهيتكم عن إحلال ما حرّم الله أنهاكم عن تحريم ما أحل الله.
__________________
(١) انظر تفسير مفاتيح الغيب للإمام الرازي (١٢ / ٨).