للمكلّف في حالات تعظم فيها المشقة عليه أن يفطر ، فأباح الفطر لكلّ من المسافر والمريض والهرم والحامل والمرضع ، وهكذا تجد جميع التكاليف في ابتدائها ودوامها مراعى فيها التخفيف والتيسير على العباد ، كما يشهد بذلك قوله تعالى : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف : ١٥٧] وقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] وغير ذلك في هذا المعنى كثير.
(مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) الملة والدين والشريعة شيء واحد ، وكلمة (مِلَّةَ) منصوبة على المصدرية بفعل يدلّ عليه قوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فإنه يفيد معنى التوسعة ، أي وسع عليكم في دينكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم ، فحذف المصدر المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، ويصحّ أن تكون منصوبة على الاختصاص بفعل تقديره : أعني ملة أبيكم إبراهيم ، وقيل : إنها منصوبة على الإغراء أي الزموا ملة أبيكم إبراهيم وظاهر أنه على الإعراب الأول لا يكون في الكلام دلالة على أنّ شريعتنا هي شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وحينئذ فلا مانع من تفسير الملة بالأحكام الشرعية كلها الاعتقادية والعملية ، أما الإعرابان الآخران فإنّهما يدلان على اتحاد الشريعتين ، وعلى هذا ينبغي قصر الملة على الأحكام الأصلية المتعلقة بالاعتقاد ، إذ لا شك أنها واحدة في شريعتنا وشريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، بل هي واحدة في جميع الشرائع لم تتغير بتغير الأزمان والأقوام ، اقرأ قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى : ١٣] وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)) [الأنبياء : ٢٥] وقول النبي صلىاللهعليهوسلم : «الأنبياء أولاد علّات» (١) يريد أن إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة ، وعلى هذا يكون تخصيص إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالذكر ليقويّ تمسك المؤمنين من أمة محمد صلىاللهعليهوسلم بشريعته إذ إنّ أكثرهم من نسل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فهم يحبونه حب الأبناء للآباء ، ولا شكّ أنّ هذا الحب يقوّي فيهم روح الاستمساك بشريعة نبيهم محمد صلىاللهعليهوسلم ، إذ كانت هي شريعة أبيهم إبراهيم من قبل. وقد تبين لك من هذا معنى أبوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام للمؤمنين من هذه الأمة.
ويصحّ أن يقال : إنه عليه الصلاة والسلام أب لنبينا محمد صلىاللهعليهوسلم ، ومحمد صلىاللهعليهوسلم كالأب لأمته من حيث إنه سبب لحياتهم السعيدة في الآخرة.
__________________
(١) رواه مسلم في الصحيح (٤ / ١٨٣٧) ، ٤٣ ـ كتاب الفضائل ، ٤٠ ـ باب فضائل عيسى حديث رقم (١٤٣ / ٢٣٦٥) ، والبخاري في الصحيح (٤ / ١٧١) ، ٦٠ ـ كتاب الأنبياء ، ٤٨ ـ باب (واذكر في الكتاب) حديث رقم (٣٤٤٢).