ويرى ابن العربي (١) أنّ المعنى بعد ذلك هو : أن النبي صلىاللهعليهوسلم قد أذن له في غير إلزام أن يكون مردّ الأمر في القسم إليه ، إن شاء قسم ، وإن شاء لم يقسم ، لكنّه كان يقسم بينهن من غير أن يكون القسم فرضا عليه.
وذلك خاصّ به دون المؤمنين. وقد ظلّ شأن النبي مع نسائه ؛ وشأن نسائه معه على هذا ، حتى أدرك الكبر سودة بنت زمعة ، فوهبت قسمها لعائشة ، وقالت : لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك.
ولنرجع بعد ذلك إلى تفسير الآية بتمامها ، حتّى يتبين من التفسير أيّ المعاني أجدر بأن يكون مقصودا من الآية.
(تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) قد عرفت مما سقناه لك آنفا أنّ الإرجاء التأخير ، وأن الإيواء الضم ، وعرفت آراء العلماء في المراد بذلك.
ونزيد هنا أنهم اختلفوا أيضا في مرجع الضمير في (منهن) ، فرآى بعضهم أنه يرجع إلى نساء الأمة جميعا ، وأنّ المعنى أن لك أن تترك نكاح من تشاء من نساء الأمة ، وأن تنكح من تشاء.
وهذا القول بعينه قدمناه لك في جملة الأقوال.
ونقول : إنه لم يفد فائدة جديدة ، فالمقصود منه قد استفيد من آية (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ) إلى قول الله تعالى : (خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) على ما تقدم بيانه ، وهو بعد ذلك لا يتسق مع قول الله تعالى : (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ).
ويرى البعض أنّ الضمير للواهبات ، ويكون المعنى إنّ لك أن تقبل هبة من تشاء ، وتترك هبة من تشاء ، ويروون في ذلك من الروايات ما يستندون إليه ، إذ يفيد أنّ بعض الواهبات قبلهنّ الرسول صلىاللهعليهوسلم ودخل بهن ، وأرجأ البعض الآخر ، ولم يدخل بهن ، ويقولون : إنّ منهن أمّ شريك.
وأنت تعلم مما سبق أن العلماء اختلفوا في وقوع الهبة ، وعلمت أنّ الصحيح أنّها وقعت ، وعلمت كذلك أنهم اختلفوا في قبوله صلىاللهعليهوسلم الهبة منهن ، وأن الصحيح أنه لم يكن تحته امرأة وهبت نفسها ، ومتى علمت هذا كان لك أن تحكم بضعف هذا القول ، خصوصا إذا نظرت إلى أن ضمير (منهن) للجمع ، ولم يرد للواهبات ذكر بالجمع حتى يكون مرجعا ، فخير أن يكون مرجع الضمير لنسائه اللاتي هنّ تحته : وأنّ المراد ترك أمر القسم إليه ، إن شاء قسم ، وإن شاء لم يقسم ؛ توسعة عليه ، حتى تطمئن نفوس زوجاته ، على ما يأتي بيانه.
__________________
(١) أحكام القرآن للإمام ابن العربي (٣ / ١٥٥٦).