وحكم القيام في الخطبة أنّه سنة عند الحنفية (١) ، ويرى الشافعية أنّه أحد شروطها ، وأنت تعلم أنّ الحنفية لا يثبتون الشرط إلا بقطعي ، وهو غير موجود هنا. والشافعية يتمسكون بما في الآية من إشارة ، وبما ثبت من السنة عن النبي صلىاللهعليهوسلم والخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية على ما عرفت قبلا.
(قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) قدمت التجارة على اللهو عند الرؤية ، لأنها كانت الباعث الأقوى على الخروج ، وأخّرت هنا لأنّه أقوى في الذم ، والغرض التنفير ، فكان من المناسب تقديمه.
(وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فهو الذي يقدّر الأقوات وييسرها ، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء ، وما يمسك فلا مرسل له ، وما يرسل فلا ممسك له ، إلا من بعد إذنه ، وما ينبغي لأحد أن يهجر عبادة الله من أجل شيء ، إن كان له فسوف يأتيه ، وإذا لم يكن له فلن يفيد فيه الإسراع إليه ، والجري وراءه ، وهو لو شاء الحرمان منه لحرمه وهو في البيت ، بل وفي اليد إلى الفم.
وقد حاول العلماء أن يستدلوا بما روي في أسباب النزول من أعداد الباقين والمنفضين على العدد في الجمعة ، فمن صحّ عنده أن الباقين كانوا اثني عشر قال : إنّ العدد المعتبر في الابتداء هو العدد المعتبر في البقاء ، فلو كان العدد الباقي لا تصحّ به الجمعة لما صحت الجمعة ، ولم يرو أنّهم أعادوها.
وقد ردّ هذا الاستدلال من وجوه :
أولا : قد روي أنّ الباقي كان أربعين ، وروي أنه كان ثمانية ، ولو سلّم أنهم كانوا اثني عشر ، فلا دلالة فيه ، لأنّه لا يدل إلا على أنّها تصح باثني عشر ، وهو لا يفيد أنها لا تصح بما دون ذلك ، فأين التحديد باثني عشر.
وقد سبق أن قلنا : إن الآية لا يؤخذ منها شيء من هذه الأحكام التي يثبتها الفقهاء في الجمعة ، ولا دلالة لها على أكثر من وجوب السعي عن الجمعة ، وعلى وجوب ترك البيع وشؤون الدنيا من أجل الصلاة ، وعلى أنّه لا يجوز أن يترك الناس الخطيب يخطب وينصرفوا إلى أي شأن آخر.
__________________
(١) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١ / ٨٩).