أما آية الإسراء : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) [الإسراء : ٧٩] فهي مدنية متأخّرة في النزول عن سورة المزمّل فيصح أن يكون التهجد قد بقي وجوبه على رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعد ما نسخ عن أمته ، ويكون معنى الآية : استمر على التهجد بالليل فريضة زائدة لك على ما استقرّ وجوبه على أمتك.
والذي يستخلص من ذلك أنّ أرجح الأقوال هو الثاني ، وهو القول بأنّ التهجد كان فريضة على النبيّ صلىاللهعليهوسلم وعلى أمته ، إذ هو الذي يمكن أن تأتلف عليه النصوص القرآنية السابقة. ويشهد له ما تقدّم من الآثار عن ابن عباس وعائشة وغيرهما.
وننتقل بعد ذلك إلى الكلام في بقاء وجوب التهجد وعدمه ، وفي تعيين الناسخ على القول بعدم البقاء.
وللعلماء في ذلك أربعة أقوال :
الأول : نقل عن الحسن وابن سيرين وابن جبير ما يفيد القول ببقاء وجوب التهجد على الناس جميعا ، وأنّ أصل وجوب القيام لم ينسخ ، وإنما الذي نسخ هو وجوب قيام جزء مقدّر من الليل لا ينقص كثيرا عن النصف على ما علمت. وهذا قول يخالف ما روي عن عائشة رضي الله عنها على ما سبق ، وكذلك يخالف ما روي عن ابن عباس أنّه قال : سقط قيام الليل عن أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وصار تطوعا ، وبقي بعد ذلك فرضا على رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ويردّه أيضا ما ثبت في «الصحيحين» (١) أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال للرجل الذي سأله عما يجب : «خمس صلوات في اليوم والليلة» قال : هل عليّ غيرها؟ قال : «لا ، إلا أن تطوّع».
القول الثاني : أنّه نسخ عن النبي صلىاللهعليهوسلم وعن أمته بآخر سورة المزمّل ، واستبدل به قراءة القرآن على ما يعطيه ظاهر قوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل : ٢٠].
ويدل عليه أيضا ظاهر ما روي عن عائشة رضي الله عنها كما تقدم فإنّ قولها : فصار قيام الليل تطوعا ، لم تقيده بالأمة.
القول الثالث : أنّ وجوب التهجد استمر على النبي وعلى الأمة ، حتى نسخ بالصلوات الخمس ليلة المعراج.
القول الرابع : أنّه نسخ عن الأمة وحدها ، وبقي وجوبه على رسول الله صلىاللهعليهوسلم على ما يعطيه ظاهر آية الإسراء [٧٩].
__________________
(١) رواه مسلم في الصحيح (١ / ٤٠) ، ١ ـ كتاب الإيمان ، ٢ ـ باب بيان الصلوات حديث رقم (٨ / ١١) ، والبخاري في الصحيح (١ / ٢٠) ، ٢ ـ كتاب الإيمان ، ٣٥ ـ باب الزكاة من الإسلام حديث رقم (٤٦).