ولعلّ الراجح هو هذا القول الأخير ، كما أنّ الظاهر أنّ نسخ التهجد لم يحصل دفعة واحدة ، فإنّ آخر سورة المزمل يفيد نسخ المقدار الذي بيّن في أولها ، ولا يلزم من هذا نسخ وجوب التهجد من أصله ، وكان بين آخر السورة وأولها نحو عام ، كما ورد في الآثار السابقة.
أما النسخ أصل الوجوب فإنه كان بافتراض الصلوات الخمس ليلة المعراج ، وكان ذلك قبل الهجرة بعام.
والظاهر أيضا أنّ هذا كله بالنظر للأمة ، فأما النبي صلىاللهعليهوسلم فإنّ آية الإسراء المدنية تدلّ على أنّ وجوب التهجد قد بقي عليه من بعد هذا ، وأنّه استمر وجوبه عليه لم ينسخ إلى آخر حياته عليه الصلاة والسلام لعدم ما يدلّ على ذلك النسخ ، وهذا هو الذي يشهد له ما تقدّم لك عن ابن عباس أنه يقول : سقط قيام الليل عن أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم وصار تطوعا ، وبقي ذلك فرضا على رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ويشهد له أيضا ما صحّ أنه صلىاللهعليهوسلم لم يدع قيام الليل حضرا ولا سفرا ، وأنه كان إذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع صلّى من النهار اثني عشر ركعة. كما ورد عن عائشة في حديثها مع سعيد بن هشام وقد تقدم بعضه. فإنّ مواظبة الرسول صلىاللهعليهوسلم على قيام الليل في الحضر والسفر ، وقضاءه ما فاته من ذلك بعذر النوم أو المرض دليل على استمرار فرضية القيام عليه صلىاللهعليهوسلم.
(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) تقول العرب : ثغر رتل ورتل بالفتح والكسر ، إذا كان مفلّجا أو حسن التنضيد ، وفي «القاموس» : الرتل محركة : حسن تناسق الشيء ، وفيه أيضا : ورتل الكلام ترتيلا : أحسن تأليفه. وترتّل فيه ترسّل.
أما أقوال أهل التفسير : فعن ابن عباس أنّ معنى (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) بيّنه تبيينا وعن مجاهد : ترسّل فيه ترسلا. وقال قتادة : تثبّت فيه تثبتا. وكلها تدور حول شيء واحد ، والمراد : اقرأه في قيامك بالليل على مهل ، وتبيّن حروفه ، فإنّ ذلك يكون عونا لك ولمن يسمع منك على فهمه وتدبر معانيه.
أخرج العسكري في «المواعظ» عن عليّ كرّم الله وجهه أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم سئل عن هذه الآية فقال : «بيّنه تبيينا ، ولا تنثره نثر الدقل ، ولا تهذّه هذّ الشعر ، قفوا عند عجائبه ، وحرّكوا به القلوب ، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة» (١) الدقل بفتح القاف : رديء التمر ويابسه. والهذّ : الإسراع ، ولقد كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقرأ قراءة مرتّلة مفسّرة حرفا حرفا ، وكان يقطّع قراءته آية آية ، ويمد حروف المد.
__________________
(١) انظر ما رواه السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (٦ / ٢٧٧).