الله تعالى اسودت شفاههم وغلبهم العطش فلم يرووا وجبنوا وبقوا على شط النهر ولم يجاوزوه ، وقيل جاوزوه كلهم ولكن الذين شربوا لم يحضروا القتال وإنما قاتل أولئك القليل الذين لم يشربوا وهو قوله تعالى : (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ) يعني جاوز النهر طالوت (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) يعني أولئك القليل (قالُوا) يعني الذين شربوا من النهر وخالفوا أمر الله تعالى وكانوا أهل شك ونفاق فعلى هذا يكون قد جاوز النهر مع طالوت المؤمن والمنافق والطائع والعاصي فلما رأوا العدو قال المنافقون (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) فأجابهم المؤمنون بقولهم (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً) وقيل لم يجاوز النهر مع طالوت إلا المؤمنون خاصة لقوله تعالى : (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ). فإن قلت فعلى هذا القول من القائل «لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده». قلت يحتمل أن يكون أهل الإيمان وهم الثلاثمائة وبضعة عشر انقسموا إلى قسمين قسم حين رأوا العدو وكثرته وقلة المؤمنين قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده فأجابهم القسم الآخر بقولهم» كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين» ومعنى لا طاقة لنا لا قوة لنا اليوم بجالوت وجنوده (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ) أي يستيقنون ويعلمون (أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ) أي ملاقو ثواب الله ورضوانه في الدار الآخرة (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ) الفئة الجماعة لا واحد له من لفظه كالرهط (غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) أي بقضاء الله وإرادته (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) يعني بالنصر والمعونة. قوله عزوجل :
(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠))
(وَلَمَّا بَرَزُوا) يعني طالوت وجنوده المؤمنين (لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) يعني الكافرين ومعنى برزوا صاروا بالبراز من الأرض وهو ما ظهر واستوى منها (قالُوا) يعني المؤمنين أصحاب طالوت (رَبَّنا أَفْرِغْ) أي اصبب (عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) أي قو قلوبنا لتثبت أقدامنا (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) وذلك أن جالوت وقومه كانوا يعبدون الأصنام فسأل المؤمنون الله أن ينصرهم على القوم الكافرين.
(فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١))
(فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ) يعني أن الله تعالى استجاب دعاء المؤمنين فأفرغ عليهم الصبر وثبت أقدامهم ونصرهم على القوم الكافرين حين التقوا فهزموهم بإذن الله يعني بقضائه وإرادته وأصل الهزم في اللغة الكسر أي كسروهم وردوهم (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ) وكانت قصة قتله ما ذكره أهل التفسير وأصحاب الأخبار أنه عبر النهر فيمن عبر مع طالوت أيشا أبو داود في ثلاثة عشر ابنا له وكان داود أصغرهم وكان يرمي بالقذافة فقال داود لأبيه يوما يا أبتاه ما أرمي بقذافتي شيئا إلّا صرعته ، فقال له أبوه أبشر يا بني فإن الله قد جعل رزقك في قذافتك ثم أتاه مرة أخرى فقال : يا أبتاه لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا فركبته وأخذت بأذنه فلم يهجني فقال له أبوه : أبشر يا بني فإن هذا خير يريده الله بك ، ثم أتاه يوما آخر فقال له : يا أبتاه إني لأمشي بين الجبال فأسبح فلا يبقى جبل إلّا سبح معي فقال : يا بني أبشر فإن هذا خير أعطاكه الله تعالى. قالوا فأرسل جالوت الجبار إلى طالوت ملك بني إسرائيل أن ابرز إلي وأبرز إليك أو أبرز إلي من يقاتلني ، فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم فشق ذلك على طالوت ونادى في عسكره من قتل جالوت زوجته ابنتي وناصفته ملكي فهاب الناس جالوت فلم يجبه أحد فسأل طالوت نبيهم أن يدعو الله في ذلك فدعا الله فأتي بقرن فيه دهن القدس وتنور حديد.