العلم وأصلها من العبور كأنه طريق يعبرونه فيوصلهم إلى مرادهم. وقيل : العبرة هي التي يعبر منها من منزلة الجهل إلى منزلة العلم (لِأُولِي الْأَبْصارِ) لذوي العقول والبصائر. قوله عزوجل :
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤))
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ) قال أهل السنة : المزين هو الله تعالى لأنه تعالى خالق الجميع أفعال العباد ولأن الله تعالى خلق جميع ملاذ الدنيا وأباحها لعبيده وإباحتها للعبد تزيين لها قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) وقال تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) وقال الله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها) وقال تعالى : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) وكل ذلك يدل على أن المزين هو الله تعالى. ومما يؤيد ذلك قراءة مجاهد زين بفتح الزاي على تسمية الفاعل وقال الحسن : المزين هو الشيطان وهو قول طائفة من المعتزلة ويدل على ذلك أن الله تعالى زهد في هذه الأشياء بأن أعلم عباده زوالها. ولأن الله تعالى أطلق حب الشهوات فيدخل فيه الشهوات المحرمة ، والمزين لذلك هو الشيطان ، ولأن الله تعالى ذكر هذه الأشياء في معرض الذم للدنيا ويدل عليه آخر الآية وهو قوله تعالى (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ). ونقل عن أبي علي الجبائي من المعتزلة أن كل ما كان حراما كان المزين له هو الشيطان ، وكل ما كان مباحا كان المزين له هو الله تعالى ، والصحيح ما ذهب إليه أهل السنة لأن الله تعالى خالق كل شيء ولا شريك له في ملكه. وقوله تعالى : (حُبُّ الشَّهَواتِ) يعني المشتهيات لأن الشهوة توقان النفس إلى الشيء المشتهى (مِنَ النِّساءِ) إنما بدأ بذكر النساء لأن الالتذاذ بهن أكثر ، والاستئناس بهن أتم ، ولأنهن حبائل الشيطان وأقرب إلى الافتتان (وَالْبَنِينَ) إنما خص البنين بالذكر لأن حب الولد الذكر أكثر من حب الأنثى ووجه حبه ظاهر لأنه يتكثر به ويعضده ويقوم مقامه. وقد جعل الله تعالى في قلب الإنسان حب الزوجة والولد لحكمة بالغة وهي بقاء التوالد ولو زالت تلك المحبة لما حصل ذلك (وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ) جمع قنطار وسمي قنطارا من الإحكام والعقد يقال : قنطرته إذا أحكمته ومنه القنطرة المحكمة الطاق واختلفوا في القنطار هل محدود أو غير محدود؟ على قولين أحدهما : أنه محدود ثم اختلفوا في حده فروي عن معاذ بن جبل أن القنطار ألف ومائتا أوقية. وقال ابن عباس : ألف ومائتا مثقال وعنه أنه اثنا عشر ألف درهم أو ألف دينار دية أحدكم وبه قال الحسن : وقال سعيد بن جبير : هو مائة ألف ومائة من ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم. ولقد جاء الإسلام يوم جاء وبمكة مائة رجل قد قنطروا ، وقال سعيد بن المسيب وقتادة : هو ثمانون ألفا وقال مجاهد : سبعون ألفا. وقال السدي : هو أربعة آلاف مثقال والقول الثاني : إن القنطار ليس بمحدود. وقال الربيع بن أنس : القنطار مال الكثير بعضه على بعض وروي عن أبي عبيدة أنه حكي عن العرب أن القنطار وزن لا يحد وهو اختيار ابن جرير الطبري وغيره. وقال الحاكم القنطار ما بين السماء والأرض من مال. وقال أبو نصرة : القنطار ملء مسك ثور ذهبا أو فضة وقال القنطار من المال ما فيه عبور الحياة تشبيها بعبور القنطرة المقنطرة أي المجموعة وقيل : المضاعفة لأن القناطير جمع وأقله ثلاثة والمقنطرة المضاعفة أن تكون ستة أو تسعة وقيل المقنطرة المسكوكة المنقوشة (مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) إنما بدأ بهما من بين سائر أصناف الأموال لأنهما قيم الأشياء وإنما كانا محبوبين لأن المالك لهما مالك قادر على ما يريده وهي صفة كمال وهي محبوبة. وقيل سمي الذهب ذهبا لأنه يذهب ولا يبقى والفضة لأنها تنفض أي تتفرق (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) الخيل جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط سميت الأفراس خيلا لاختيالها في مشيتها. وقيل : لأن الخيل لا يركبها أحد إلّا وجد في نفسه مخيلة عجبا واختلفوا في معنى المسومة على ثلاثة أقوال القول الأول : إنها الراعية يقال أممت الدابة وسومتها إذا أرسلتها المرعى والمقصود أنها إذا رعت زاد حسنها والقول