تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) الخطاب لرسول الله صلىاللهعليهوسلم وللمسلمين يعني وإن تصبروا على أذاهم وتتقوا فيما أمركم به ونهاكم عنه لأن الصبر عبارة عن احتمال الأذى والمكروه والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي (فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي من صواب التدبير الذي لا شك أن الرشد فيه ولا ينبغي لعاقل تركه وأصله من قولك عزمت عليك أن تفعل كذا أي ألزمتك أن تفعله لا محالة ولا تتركه وقيل معناه فإن ذلك مما قد عزم عليكم فعله أي ألزمتم الأخذ به. قوله تعالى :
(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨))
(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ) أي واذكر يا محمد وقت إذ أخذ الله (مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يعني اليهود والنصارى ، والمراد منهم العلماء خاصة وقيل المراد بالذين أوتوا الكتاب العلماء والأحبار من اليهود خاصة وأخذ الميثاق هو التوكيد والإلزام لبيان ما أوتوه من الكتاب وهو قوله تعالى : (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) يعني لتبينن ما في الكتاب ولتظهرنه للناس حتى يعلموه وذلك أن الله أوجب على علماء التوراة والإنجيل أن يشرحوا للناس ما في هذين الكتابين من الدلائل الدالة على نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم (وَلا تَكْتُمُونَهُ) يعني ولا تخفون ذلك عن الناس (فَنَبَذُوهُ) يعني الكتاب وقيل الميثاق (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) أي فطرحوه وضيعوه وتركوا العمل به (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) يعني المآكل والرشا التي كانوا يأخذونها من عوامهم وسفلتهم (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) ذمهم الله تعالى على فعلهم ذلك. واعلم أن ظاهر هذه الآية وإن كان مخصوصا بعلماء أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فلا يبعد أن يدخل فيه علماء هذه الأمة الإسلامية لأنهم أهل كتاب وهو القرآن وهو أشرف الكتب. قال قتادة : هذا ميثاق أخذه الله تعالى على أهل العلم فمن علم شيئا فليعلمه وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة وقال أيضا مثل علم لا يقال به كمثل كنز لا ينفق منه ومثل حكمة لا تخرج كمثل صنم لا يأكل ولا يشرب وقال أيضا طوبي لعالم ناطق ومستمع واع هذا علم علما فبذله وهذا سمع خيرا فقبله ووعاه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم من سئل علما يعلمه فكتمه ألجم «بلجام من نار» أخرجه الترمذي. ولأبي داود «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة». وقال أبو هريرة لو لا ما أخذ الله عزوجل على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء ثم تلا هذه الآية (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) الآية وقال الحسن بن عمارة أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت أريد أن تحدثني ، فقال : أما علمت أني قد تركت الحديث فقلت : إما أن تحدثني وإما أن أحدثك قال : حدثني فقلت : حدثني الحكم بن عيينة عن يحيى بن الخراز قال سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا قال : فحدثني أربعين حديثا.
قوله عزوجل : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) قرئ بالتاء على الخطاب أي لا تحسبن يا محمد الفارحين الذين يفرحون ، وقرئ بالياء على الغيبة يعني ولا يحسبن الفارحون والمعنى لا يحسبن الذين يفرحون فرحهم منجيا لهم من العذاب نزلت هذه الآية في المنافقين (ق) عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان إذا خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلىاللهعليهوسلم فإذا قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم اعتذروا إليه وحلفوا له وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) الآية وقيل نزلت في اليهود (ق) عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن مروان قال اذهب يا رافع لبوابه إلى ابن عباس فقل لئن كان كل امرئ مما فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل لنعذبن أجمعون. قال ابن عباس : مالكم. ولهذه الآية إنما نزلت هذه الآية في أهل الكتاب ثم تلا ابن عباس : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ