(يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) يعني يوم القيامة (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي تمنعون أنفسكم عن المعاصي. فإن قلت كان حق هذه القصة أن يقدم ذكر القتيل أولا ، ثم ذكر ذبح البقرة بعد ذلك ، فما وجه ترتيب هذه القصة على هذا الترتيب؟ قلت : وجهه أن الله لما ذكر من قصص بني إسرائيل وما وجد من خياناتهم تقريعا لهم على ذلك وما وجد فيهم من الآيات العظيمة ، وهاتان قصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع وإن كانتا متصلتين متحدتين في نفس الأمر ، فالأولى لتقريعهم على ترك المسارعة إلى امتثال الأمر وما يتبعه والثانية لتقريعهم على قتل النفس المحرمة فلو قدم قصة القتيل على قصة الذبح لكانت قصة واحدة ولذهب الغرض من تثنية التقريع ، فلهذا قدم ذكر الذبح أولا ثم عقبه بذكر القتل. فإن قلت ما فائدة ضرب القتيل ببعض البقرة والله تعالى قادر على أن يحييه ابتداء من غير ضرب بشيء؟ قلت : الفائدة فيه أن تكون الحجة أوكد وعن الحيلة أبعد لاحتمال أن يتوهم متوهم أن موسى عليهالسلام ، إنما أحياه بضرب من السحر والحيلة فإذا أحيى القتيل ، عند ما ضرب ببعض البقرة انتفت الشبهة ، وعلم أن ذلك من عند الله تعالى وبأمره كان ذلك. فإن قلت : هلا أمروا بذبح غير البقرة؟ قلت : الكلام في غير البقرة لو أمروا به كالكلام في البقرة ثم في ذبح البقرة فوائد منها التقرب بالقربان على ما كانت العادة جارية عندهم ، ومنها أن هذا القربان كان عندهم من أعظم القرابين ومنها تحمل المشقة العظيمة في تحصيلها بتلك الصفة ومنها حصول ذلك المال العظيم الذي أخذه صاحبها من ثمنها.
(فصل : في حكم هذه المسألة في شريعة الإسلام إذا وقعت)
وذلك أن : إذا وجد قتيل في موضع ، ولا يعرف قاتله فإن كان ثم لوث على إنسان ادعى به. واللوث أن يغلب على الظن صدق المدعى بأن اجتمع جماعة في بيت أو صحراء ثم تفرقوا عن قتيل فيغلب على الظن أن القاتل فيهم أو وجد قتيل في محلة أو قرية وكلهم أعداء القتيل لا يخالطهم غيرهم ، فيغلب على الظن أنهم قتلوه فإن ادعى الولي على بعضهم حلف خمسين يمينا على من يدعي عليه ، وإن كان الأولياء جماعة توزع الإيمان عليهم فإذا حلفوا أخذوا الدية من عاقلة المدعى عليه ، إن ادعوا قتل خطأ ، وإن ادعوا قتل عمد فمن مال المدعى عليه ولا قود عليه في قول الأكثرين ، وذهب عمر بن عبد العزيز إلى وجوب القود وبه قال مالك وأحمد فإن لم يكن ثم لوث فالقول قول المدعي عليه لأن الأصل براءة ذمته من القتل وهل يحلف يمينا واحدة أم خمسين يمينا؟ فيه قولان : أحدهما : أنه يحلف يمينا واحدة كما في سائر الدعاوى. والثاني : أنه يحلف خمسين يمينا تغليظا لأمر القتيل ، وعند أبي حنيفة لا حكم للوث ولا يبدأ بيمين المدعي بل إذا وجد قتيل في محلة ، يختار الإمام خمسين رجلا من صلحاء أهلها فيحلفهم أنهم ما قتلوه ولا يعرفون له قاتلا ، فإن حلفوا وإلا أخذ الدية من سكانها. والدليل على أن البداءة بيمين المدعي عند وجود اللوث. ما روى عن سهل بن أبي خيثمة قال : انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهي يومئذ صلح فتفرقا فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا فدفنه. ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كبر كبر وهو أحدث القوم سنا» فسكت ، فتكلما فقال أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو قال صاحبكم قالوا : كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال : فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم قالوا : كيف نأخذ بأيمان قوم كفار فعقله النبي صلىاللهعليهوسلم من عنده وفي رواية يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته وذكر نحوه وزاد في رواية فكره رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يبطل دمه ، فوداه بمائة من إبل الصدقة أخرجاه في الصحيحين ، ووجه الدليل من هذا الحديث أن النبي صلىاللهعليهوسلم بدأ بأيمان المدعين ليقوى جانبهم باللوث لأن اليمين أبدا تكون لمن يقوى جانبه وعند عدم اللوث تكون من جانب المدعى عليه من حيث إن الأصل براءة ذمته ، فكان القول قوله مع يمينه والله أعلم. قوله عزوجل : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) أي يبست وجفت وقساوة القلب انتزاع الرحمة منه ، وقيل معناه غلظت واسودت (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد ظهور الدلالات التي جاء بها