ونحو ذلك من الاعتذارات (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) يعني جزاء ما عملت في الدنيا من خير أو شر (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) يعني لا ينقصون من جزاء أعمالهم شيئا ، بل يوفون ذلك كاملا من غير زيادة ولا نقصان. روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لكعب الأحبار : خوفنا فقال يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده لو وافيت القيامة بمثل عمل سبعين نبيا ، لأتت عليك ساعات وأنت لا يهمك إلا نفسك وإن جهنم لتزفر زفرة ما يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه حتى إبراهيم خليل الرحمن يقول : يا رب لا أسألك إلا نفسي ، وإن تصديق ذلك فيما أنزل الله تعالى يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها. وروى عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال : ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتى تخاصم الروح الجسد ، فتقول الروح : يا رب لم تكن لي أيد أبطش بها ، ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها ، ويقول الجسد : يا رب خلقتني كالخشبة ، ليست لي يد أبطش بها ، ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها فجاء هذا الروح كشعاع النور فيه نطق لساني ، وبه أبصرت عيناي وبه مشت رجلاي فضرب الله لهما مثلا أعمى ومقعد دخلا حائطا ، يعني بستانا فيه ثمار فالأعمى لا يبصر الثمار والمقعد لا يناله فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثمر فعليهما العذاب. قوله عزوجل (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً) المثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر بينهما مشابهة ، ليبين أحدهما الآخر ويصوره ، وقيل : هو عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من المعاني أي معنى كان وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة ، قال الإمام فخر الدين الرازي : المثل قد يضرب بشيء موصوف بصفة معينة سواء ، كان ذلك الشيء موجودا أو لم يكن وقد يضرب بشيء موجود معين ، فهذه القرية التي ضرب الله بها هذا المثل يحتمل أن تكون شيئا مفروضا ، ويحتمل أن تكون قرية معينة ، وعلى التقدير الثاني فتلك القرية يحتمل أن تكون مكة أو غيرها والأكثر من المفسرين على أنها مكة ، والأقرب أنها غير مكة لأنها ضربت مثلا لمكة ومثل مكة يكون غير مكة ، وقال الزمخشري في كتابه الكشاف : وضرب الله مثلا قرية أي جعل القرية التي هذه حالها ، مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فكفروا وتولوا فأنزل الله بهم نقمته ، فيجوز أن تراد قرية مقدرة على هذه الصفة ، وأن تكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها ، فضرب الله مثلا لمكة إنذارا من مثل عاقبتها وقال الواحدي : ضرب المثل ببيان المشبه والمشبه به ، وهاهنا ذكر المشبه به ولم يذكر المشبه لوضوحه عند المخاطبين ، والآية عند عامة المفسرين نازلة في أهل مكة وما امتحنوا به من الخوف والجوع بعد الأمن ، والنعمة بتكذيبهم النبي صلىاللهعليهوسلم فتقدير الآية ضرب الله مثلا لقريتكم أي بين الله لها شبها ثم قال : قرية فيجوز أن تكون القرية بدلا من مثلا لأنها هي الممثل بها ، ويجوز أن يكون المعنى ضرب الله مثلا ، مثل قرية فحذف المضاف هذا قول الزجاج والمفسرون كلهم قالوا : أراد بالقرية مكة يعنون أنه أراد مكة في تمثيلها بقرية صفتها ما ذكر. وقال ابن الجوزي : في هذه القرية قولان : أحدهما أنها مكة قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والجمهور وهو الصحيح ، والثاني أنها قرية أوسع الله على أهلها حتى كانوا يستنجون بالخبز فبعث الله عليهم الجوع ، قاله الحسن. وأقول : هذه الآية نزلت بالمدينة في قول مقاتل وبعض المفسرين ، وهو الصحيح لأن الله سبحانه وتعالى وصف هذه القرية بصفات ستة كانت هذه الصفات موجودة في أهل مكة ، فضربها الله مثلا لأهل المدينة يحذرهم أن يصنعوا مثل صنيعهم ، فيصيبهم ما أصابهم من الجوع والخوف ، ويشهد لصحة ما قلت إن الخوف المذكور في هذه الآية في قوله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف هو البعوث والسرايا التي كان النبي صلىاللهعليهوسلم يبعثها في قول جميع المفسرين لأن النبي صلىاللهعليهوسلم لم يؤمر بالقتال ، وهو بمكة وإنما أمر بالقتال لما هاجر إلى المدينة ، فكان يبعث البعوث والسرايا إلى حول مكة يخوّفهم بذلك ، وهو بالمدينة والله أعلم بمراده ، وأما تفسير قوله تعالى : وضرب الله مثلا قرية يعني مكة (كانَتْ آمِنَةً) يعني ذات أمن لا يهاج أهلها ولا يغار عليهم (مُطْمَئِنَّةً) يعني قارة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها للانتجاع كما كان يحتاج إليه سائر العرب (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً) يعني واسعا (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) يعني يحمل إليها الرزق