والميرة من البر والبحر. نظيره قوله سبحانه وتعالى تجبى إليه ثمرات كل شيء وذلك بدعوة إبراهيم صلىاللهعليهوسلم وهو قوله «وارزق أهله من الثمرات» (فَكَفَرَتْ) يعني هذه القرية والمراد أهلها (بِأَنْعُمِ اللهِ) جمع نعمة والمراد بها سائر النعم التي أنعم الله بها على أهل مكة فلما قابلوا نعم الله التي أنعم بها عليهم بالجحود والكفر ، لا جرم أن الله تعالى انتقم منهم فقال تعالى (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) وذلك أن الله سبحانه وتعالى ابتلاهم بالجوع سبع سنين ، فقطع عنهم المطر وقطعت عنهم العرب الميرة بأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى جهدوا فأكلوا العظام المحرقة والجيف والكلاب والميتة والعهن ، وهو الوبر يعالج بالدم ويخلط به حتى يؤكل ، حتى كان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع ثم إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلىاللهعليهوسلم في ذلك ، وقالوا : ما هذا هبك عاديت الرجال فما بال النساء والصبيان ، فأذن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في حمل الطعام إليهم ، وهم بعد مشركون. والخوف يعني خوف بعوث النبي صلىاللهعليهوسلم وسراياه التي كان يبعثها للإغارة فكانت تطيف بهم وتغير على من حولهم من العرب فكان أهل مكة يخافونهم. فإن قلت : الإذاقة واللباس استعارتان فما وجه صحتهما ، والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار فما وجه صحة إيقاعها عليه ، وهو أن اللباس لا يذاق بل يلبس ، فيقال كساهم الله لباس الجوع أو يقال فأذاقهم الله طعم الجوع قلت : قال صاحب الكشاف : أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد ، وما يمس الناس منها فيقولون ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه العذاب شبه ما يدرك من أثر الضرر ، والألم بما يدرك من طعم المر البشع وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس ما غشي الإنسان ، والتلبس به من بعض الحوادث وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف ، فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس فكأنه قيل فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف ، ثم ذكر بعده من علم المعاني والبيان ما يشهد لصحة ما قال. وقال الإمام فخر الدين الرازي : جوابه من وجوه ، الأول ، أن الأحوال التي حصلت لهم عند الجوع نوعان : أحدهما أن المذوق هو الطعام فلما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع. والثاني ، أن ذلك الجوع كان شديدا كاملا فصار كأنه أحاط بهم من كل الجهات فأشبه اللباس ، والحاصل أنه حصل لهم في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق ، وحالة تشبه الملبوس فاعتبر الله كلا الاعتبارين فقال فأذاقها الله لباس الجوع والخوف ، الوجه الثاني : أن التقدير أن الله عرفها أثر لباس الجوع والخوف ، إلا أنه تعالى عبر عن التعريف بلفظ الإذاقة ، وأصل الذوق بالفم ثم قد يستعار فوضع موضع التعرف ، وهو الاختبار تقول ناظر فلانا وذاق ما عنده :
ومن يذق الدنيا فاني طعمتها |
|
وسيق إلينا عذبها وعذابها |
ولباس الجوع والخوف ما ظهر عليهم من الضمور ، وشحوب اللون ونهكة البدن وتغيير الحال وكسوف البال ، كما تقول : تعرفت سوء أثر الجوع والخوف على فلان ، كذلك يجوز أن تقول : ذقت لباس الجوع والخوف على فلان. الوجه الثالث : أن يحمل لفظ الذوق واللبس على المماسة ، فصار التقدير فأذاقها الله مساس الجوع والخوف ثم قال تعالى (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) ولم يقل بما صنعت لأنه أراد أهل القرية ، والمعنى : فعلنا بهم ما فعلنا بسبب ما كانوا يصنعون ، وهذا مثل أهل مكة لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب ثم أنعم الله عزوجل عليهم بالنعمة العظيمة وهي إرسال محمد صلىاللهعليهوسلم وهو منهم فكفروا به وكذبوه وبالغوا في إيذائه ، وأرادوا قتله فأخرجه الله من بينهم وأمره بالهجرة إلى المدينة وسلط على أهل مكة البلاء والشدائد والجوع والخوف كل ذلك بسبب تكذيبهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وخروجه من بين أظهرهم. قوله سبحانه وتعالى (وَلَقَدْ جاءَهُمْ) يعني أهل مكة (رَسُولٌ مِنْهُمْ) يعني محمدا صلىاللهعليهوسلم يعرفون نسبه ، ويعرفونه قبل النبوة وبعدها (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) يعني الجوع والخوف وقيل القتل يوم بدر ، والقول الأول أولى لما تقدم في الآية (وَهُمْ ظالِمُونَ) يعني كافرون (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) في المخاطبين بهذا قولان : أحدهما ، أنهم المسلمون ، وهو قول جمهور المفسرين ، والثاني ، أنهم هم المشركون من أهل مكة. قال الكلبي : لما اشتد الجوع بأهل مكة كلم رؤساؤهم