جميع الشهوات والصبر على ما نزل به من الأمراض والمصائب ، وأصل الصبر حبس النفس عما يقتضيه العقل أو الشرع أو عما يقتضيان حبسها عنه فالصبر لفظ عام يدخل تحته جميع ما ذكر ، وإنما قيّد الصبر بقوله (ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) لأن الصبر ينقسم إلى نوعين : الأول الصبر المذموم وهو أن الإنسان قد يصبر ليقال ما أكمل صبره وأشد قوته على ما تحمل من النوازل وقد يصبر لئلا يعاب على الجزع ، وقد يصبر لئلا تشمت به الأعداء ، وكل هذه الأمور وإن كان ظاهرها الصبر فليس ذلك داخلا تحت قوله : (ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) لأنها لغير الله تعالى. النوع الثاني : الصبر المحمود وهو أن يكون الإنسان صابرا لله تعالى راضيا بما نزل به من الله طالبا في ذلك الصبر ثواب الله محتسبا أجره على الله فهذا هو الصبر الداخل تحت قوله ابتغاء وجه ربهم يعني صبروا على ما نزل بهم تعظيما لله وطلب رضوانه (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) يعني الصلاة المفروضة. وقيل : حمله على العموم أولى فيدخل صلاة الفرض والنفل والمراد بإقامتها إتمام أركانها وهيئاتها (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) قال الحسن : المراد به الزكاة المفروضة فإن لم يتهم بترك أداء الزكاة فالأولى أن يؤديها سرا ، وإن كان متهما بترك أداء الزكاة فالأولى أن يؤديها علانية. وقيل : إن المراد بالسر ما يخرج من الزكاة بنفسه والمراد بالعلانية ما يؤديه إلى الإمام. وقيل : المراد بالسر صدقة التطوع والمراد بالعلانية الزكاة الواجبة وحمله على العموم أولى (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) قال ابن عباس : يدفعون بالعمل الصالح العمل السيء ، وهو معنى قوله : «إن الحسنات يذهبن السيئات» ويدل على صحة هذا التأويل ما جاء في الحديث أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال «إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها السر بالسر والعلانية بالعلانية» وروى البغوي بسنده عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل عليه درع ضيقة قد خنقته ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ثم عمل أخرى فانفكت أخرى حتى خرج إلى الأرض» وقال ابن كيسان : يدفعون الذنب بالتوبة وقيل : لا يكافئون الشر بالشر ولكن يدفعون الشر بالخير وقال القتيبي معناه إذا سفه عليهم حلموا والسفه السيئة والحلم الحسنة ، وقال قتادة : ردوا عليهم ردا معروفا. وقال الحسن : إذا حرموا أعطوا وإذا ظلموا عفوا وإذا قطعوا وصلوا. قال عبد الله بن المبارك : هذه ثمان خلال مشيرة إلى أبواب الجنة الثمانية قلت إنما هي تسع خلال فيحتمل أنه عد خلتين بواحدة ولما ذكر الله عزوجل هذه الخلال من أعمال البر ، ذكر بعدها ما أعد للعاملين بها من الثواب فقال تعالى (أُولئِكَ) يعني من أتى بهذه الأعمال (لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) يعني الجنة والمعنى إن عاقبتهم دار الثواب (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل من عقبى الدار يعني بساتين إقامة يقال عدن بالمكان إذا أقام به (يَدْخُلُونَها) يعني الدار التي تقدم وصفها (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) يعني ومن صدق من آبائهم بما صدقوا به ، وإن لم يعمل بأعمالهم قاله ابن عباس. وقال الزجاج : إن الإنسان لا ينتفع بغير أعماله الصالحة فعلى قول ابن عباس : معنى صلح صدق وآمن ووحد ، وعلى قول الزجاج معناه أصلح في عمله قال الواحدي والصحيح : ما قاله ابن عباس لأن الله تعالى جعل ثواب المطيع سروره بما يراه في أهله حيث بشره بدخوله الجنة مع هؤلاء ، فدل على أنهم يدخلونها كرامة للمطيع العامل الآتي بالأعمال الصالحة ، ولو كان دخولهم الجنة بأعمالهم الصالحة ، لم يكن في ذلك كرامة للمطيع ولا فائدة في الوعد به إذ كل من كان صالحا في عمله ، فهو يدخل الجنة. قال الإمام فخر الدين الرازي : قوله تعالى وأزواجهم ليس فيه ما يدل على التمييز بين زوجة وزوجة ، ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه وروي أنه لما كبرت سودة أراد النبي صلىاللهعليهوسلم طلاقها فسألته أن لا يفعل ، ووهبت يومها لعائشة فأمسكها رجاء أن تحشر في جملة أزواجه فهو كالدليل على ما ذكرناه. وقوله تعالى (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) يعني من أبواب الجنة. وقيل من أبواب القصور ، قال ابن عباس : يريد به التحية من الله والتحف والهدايا (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) يعني يقولون : سلام عليكم فأضمر القول هاهنا لدلالة الكلام عليه (بِما صَبَرْتُمْ) يعني يقولون لهم : سلمكم الله من الآفات التي كنتم تخافونها في الدنيا وأدخلكم بما صبرتم في دار الدنيا على الطاعات ، وترك