الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا إذا سمعوا آيات الله سجدوا وبكوا خضوعا وخشوعا وخوفا وحذرا. والمراد من الآيات ما خصهم به من الكتب المنزلة عليهم ، وقيل المراد من الآيات ذكر الجنة والنار والوعد والوعيد ففيه استحباب البكاء وخشوع القلب عند سماع القرآن.
(فصل)
وسجدة سورة مريم من عزائم سجود القرآن ، فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند تلاوة هذه السجدة ، وقيل يستحب لمن قرأ آية سجدة فسجد أن يدعوا بما يناسب تلك السجدة ، فإن قرأ سجدة سبحان قال اللهم اجعلني من الباكين إليك والخاشعين لك. وإن قرأ سجدة مريم قال اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك. وإن سجد سجدة ألم السجدة قال اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك.
قوله تعالى (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد النبيين المذكورين (خَلْفٌ) أي قوم سواء أراد بهم اليهود ومن لحق بهم وتابعهم وقيل هم في هذه الأمة (أَضاعُوا الصَّلاةَ) أي تركوا الصلاة المفروضة. وقيل أخروها عن وقتها وهو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر ولا العصر حتى تأتي المغرب (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) أي آثروا شهوات أنفسهم على طاعة الله وقيل اتبعوا المعاصي وشرب الخمور ، وقيل هؤلاء قوم يظهرون في آخر الزمان ينزو بعضهم على بضع في الأسواق والأزقة (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) قال ابن عباس : الغي واد في جهنم ، وإن أودية جهنم لتستعيذ من حره أعد للزاني المصر عليه ، ولشارب الخمر المدمن له ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه ولأهل العقوق ، ولشاهد الزور وقيل هو واد في جهنم بعيد قعره خبيث طعمه يسيل قيحا ودما ، وقيل : واد في جهنم أبعدها قعرا وأشدها حرا فيه بئر تسمى الهيم كلما خبت جهنم فتح الله تلك البئر فتستعر بها جهنم وقيل معنى غيا خسرانا وقيل هلاكا وعذابا ، وليس معنى يلقون يرون فقط بل معناه الاجتماع والملابسة مع الرؤية.
قوله تعالى (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) يعني إلا من تاب من التقصير في الصلوات والمعاصي وآمن من الكفر وعمل صالحا بطاعة الله تعالى (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) أي لا ينقصون شيئا ثم وصف الجنة فقال تعالى (جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي بساتين إقامة وصفها بالدوام بخلاف جنات الدنيا فإنها لا تدوم (الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) أي إنهم لا يرونها فهي غائبة عنهم وهم غائبون عنها (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) أي آتيا وقيل معنى وعده موعود وهو الجنة مأتيا أي يأتيه أولياء الله وأهل طاعته (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) أي باطلا وفحشا وهو فضول الكلام (إِلَّا سَلاماً) يعني بل يسمعون فيها سلاما والسلام اسم جامع للخير لأنه يتضمن معنى السلامة ، وذلك أن أهل الجنة لا يسمعون فيها ما يؤلمهم ، إنما يسمعون تسليمهم ، وقيل هو تسليم بعضهم على بعض وتسليم الملائكة عليهم ، وقيل هو تسليم الله عليهم (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) قال أهل التفسير : يؤتون بأرزاقهم على مقدار طرفي النهار كعادتهم في الدنيا ، وقيل إنهم يعرفون وقت النهار برفع الحجب ، ووقت الليل بإرخاء الحجب ، وقيل المراد منه رفاهية العيش وسعة الرزق من غير تضييق ولا تقتير ، وقيل : كانت العرب لا تعرف أفضل من الرزق الذي يؤتى به البكرة والعشي ، فوصف الله تعالى الجنة بذلك. وقوله تعالى :
(تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣) وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧))