الاستدلال على حدوث الأجسام وأن الإله لا يحل في شيء. ولا يحل فيه شيء ثم بين سبحانه وتعالى المعنى الذي يجب الاستدلال به فقال (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً) أي إن العجل لا يرد لهم جوابا إذا دعوه ولا يكلمهم (وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) هذا توبيخ لهم إذ عبدوا ما لا يملك ضر من ترك عبادته ولا ينفع من عبده وكان العجل فتنة من الله تعالى ابتلى به بني إسرائيل.
قوله عزوجل (وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل رجوع موسى (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) أي ابتليتم بالعجل (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي) على ديني في عبادة الله (وَأَطِيعُوا أَمْرِي) يعني في ترك عبادة العجل. اعلم أن هارون عليهالسلام سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه لأنه زجرهم أولا عن الباطل بقوله (إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) ثم دعا إلى معرفة الله تعالى بقوله (إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) ثم دعاهم إلى معرفة النبوة بقوله (فَاتَّبِعُونِي) ثم دعاهم إلى الشرائع بقوله (وَأَطِيعُوا أَمْرِي) فهذا هو الترتيب الجيد لأنه لا بد من إماطة الأذى عن الطريق وهي إزالة الشبهات ثم معرفة الله فإنها هي الأصل ثم النبوة ثم الشريعة. وإنما قال وإن ربكم الرحمن فخص هذا الموضع بهذا الاسم لأنه ينبههم على أنهم متى تابوا قبل الله توبتهم لأنه هو التواب الرحيم فقابلوا هذا القول بالإصرار والجحود (قالُوا لَنْ نَبْرَحَ) يعني لن نزال (عَلَيْهِ) يعني على عبادة العجل (عاكِفِينَ) يعني مقيمين (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) كأنهم قالوا لن نقبل حجتك ولا نقبل إلا قول موسى فاعتزلهم هارون ومعه اثنا عشر ألفا الذين لم يعبدوا العجل. فلما رجع موسى سمع الصياح والجلبة وكانوا يرقصون حول العجل فقال للسبعين الذين معه هذا صوت الفتنة ، فلما رأى هارون أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله و (قالَ) له (يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) أي أشركوا (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) أي تتبع أمري ووصيتي وهلا قاتلتهم وقد علمت أني لو كنت فيهم لقاتلتهم على كفرهم ، وقيل معناه ما منعك من اللحوق بي وإخباري بضلالتهم فتكون مفارقتك إياهم زجرا لهم عما أتوه (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) يعني خالفت أمري (قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) يعني بشعر رأسي وكان قد أخذ بذؤابتيه (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ) يعني لو أنكرت عليهم لصاروا حزبين يقتل بعضهم بعضا فتقول (فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) يعني خشيت إن فارقتهم واتبعتك أن يصيروا أحزابا فيتقاتلون ، فتقول فرقت بني إسرائيل (وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) يعني لم تحفظ وصيتي حين قلت لك اخلفني في قومي أصلح وأرفق بهم ثم أقبل موسى على السامري (قالَ فَما خَطْبُكَ) يعني فما أمرك وشأنك وما الذي حملك على ما صنعت (يا سامِرِيُّ قالَ) يعني السامري (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) يعني من تراب حافر فرس جبريل (فَنَبَذْتُها) يعني فقذفتها في فم العجل فخار. فإن قلت كيف عرف السامري جبريل ورآه من بين سائر النار. قلت ذكروا فيه وجهين.
أحدهما : أن أمه ولدته في السنة التي كان يقتل فيها البنون فوضعته في كهف حذرا عليه من القتل فبعث الله إليه جبريل ليربيه لما قضى الله على يديه من الفتنة. الوجه الثاني : أنه لما نزل جبريل إلى موسى ليذهب به إلى الطور رآه السامري من بين سائر الناس ، فلما رآه قال إن لهذا لشأنا فقبض القبضة من أصل تربة أثر موطئه ، فلما سأله موسى قال قبضت قبضة من أثر الرسول إليك يوم جاء للميعاد. وقيل رآه يوم فلق البحر فأخذ القبضة وجعلها في عمامته لما يريد الله أن يظهره من الفتنة على يديه وهو قوله (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ) يعني زينت (لِي نَفْسِي) وقيل إنه من السؤال والمعنى أنه لم يدعني إلى فعلة غيري واتبعت فيه هواي.
(قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ