إجلالا له وتعظيما (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) أي اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار ليخرج خالصه (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ). قال ابن عباس : بعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم سرية إلى بني العنبر وأمر عليهم عيينة بن حصن الفزاري فلما علموا أنه توجه نحوهم ، هربوا وتركوا عيالهم ، فسباهم عيينة وقدم بهم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم. فجاءه بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري فقدموا وقت الظهيرة ووافقوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم قائما في أهله ، فلما رأتهم الذراري أجهشوا إلى آبائهم يبكون وكان لكل امرأة من نساء رسول الله صلىاللهعليهوسلم حجرة فعجلوا قبل أن يخرج إليهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فجعلوا ينادون : يا محمد اخرج إلينا. حتى أيقظوه من نومه فخرج إليهم ، فقالوا : يا محمد فادنا عيالنا فنزل جبريل عليهالسلام فقال : إن الله تعالى يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلا. فقال لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم أترضون أن يكون بيني وبينكم سبرة بن عمرو وهو على دينكم؟ قالوا : نعم. قال سبرة : أنا لا أحكم إلا وعمي شاهد وهو الأعور بن بشامة ، فرضوا به ، فقال الأعور : أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : قد رضيت. ففادى نصفهم ، وأعتق نصفهم فأنزل الله عزوجل : إن الذين ينادونك من وراء الحجرات (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) وصفهم بالجهل وقلة العقل. وقيل في معنى الآية : أكثرهم إشارة إلى من يرجع منهم عن ذلك الأمر ومن لا يرجع فيستمر على حاله وهم الأكثر.
(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))
(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ) فيه بيان لحسن الأدب وهو خلاف ما جاءوا به من سوء الأدب وطلب العجلة في الخروج (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أي الصبر لأنك كنت تعتقهم جميعا وتطلقهم بلا فداء. وقيل : لكان حسن الأدب في طاعة الله وطاعة رسوله صلىاللهعليهوسلم خيرا لهم : وقيل : نزلت الآية في ناس من أعراب تميم وكأن فيهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن والزبرقان بن بدر فنادوا على الباب. ويروى ذلك عن جابر قال : جاءت بنو تميم فنادوا على الباب فقالوا : يا محمد اخرج علينا فإن مدحنا زين وذمنا شين فخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو يقول : إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين قالوا نحن ناس من تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا جئنا نشاعرك ونفاخرك فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : ما بالشعر بعثت ولا بالفخر أمرت ، ولكن هاتوا. فقام منهم شاب فذكر فضله وفضل قومه فقال النبي صلىاللهعليهوسلم لثابت بن قيس بن شماس ، وكان خطيب رسول الله صلىاللهعليهوسلم : قم فأجبه. فقام فأجابه وقام شاعرهم فذكر أبياتا فقال النبي صلىاللهعليهوسلم لحسان بن ثابت : أجبه. فأجابه فقام الأقرع بن حابس فقال : إن محمد المؤتى له تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولا وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أحسن شعرا وقولا ثم دنا من رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : ما يضرك ما كان قبل هذا. ثم أعطاهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكساهم وقد كان تخلف في ركابهم عمرو بن الأهتم لحداثة سنه فأعطاه رسول الله صلىاللهعليهوسلم مثل ما أعطاهم فأزرى به بعضهم وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم فنزل فيهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) الآيات إلى قوله (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لمن تاب منهم. وقال زيد بن أرقم : جاء ناس من العرب إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم : وقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يكن نبيا فنحن أسعد الناس به ، وإن يكن ملكا نعش في جنابه فجاؤوا فجعلوا ينادونه : يا محمد يا محمد فأنزل الله هذه الآيات.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ