وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨) وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩))
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعثه رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدقا وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية ، فلما سمع به القوم تلقوه تعظيما لأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله ، فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقال : إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي فغضب رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهم أن يغزوهم فبلغ القوم رجوع الوليد فأتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقالوا : يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي له ما قبلناه من حق الله فبدا له الرجوع فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله فاتهمهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وبعث خالد بن الوليد خفية في عسكر وأمره أن يخفي عليهم قدومه ، وقال : انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم وإن لم تر ذلك ، فاستعمل فيهم ما تستعمل في الكفار ففعل ذلك خالد. فوافاهم فسمع منهم أذان المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم ير منهم إلا الطاعة والخير فانصرف إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأخبره الخبر فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ) يعني الوليد بن عقبة.
وقيل : هو عام نزلت لبيان التثبت وترك الاعتماد على قول الفاسق وهو أولى من حكم الآية على رجل بعينه ، لأن الفسوق خروج عن الحق ولا يظن بالوليد ذلك إلا أنه ظن وتوهم فأخطأ ، فعلى هذا يكون معنى الآية : إن جاءكم فاسق بنبإ ، أي بخبر ، فتبينوا. وقرئ : فتثبتوا ، أي : فتوقفوا واطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة ولا تعتمدوا على قول الفاسق (أَنْ تُصِيبُوا) أي كيلا تصيبوا بالقتل والسبي (قَوْماً بِجَهالَةٍ) أي جاهلين حاله وحقيقة أمرهم (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ) أي من إصابتكم بالخطإ (نادِمِينَ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) أي : فاتقوا الله أن تقولوا باطلا أو تكذبوه فإن الله يخبره ويعرفه حالكم فتفتضحوا (لَوْ يُطِيعُكُمْ) أي الرسول (فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ) أي مما تخبرونه به فيحكم برأيكم (لَعَنِتُّمْ) أي لأثمتم وهلكتم عن أبي سعيد الخدري «أنه قرأ واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم قال : هذا نبيكم يوحى إليه وخيار أئمتكم لو أطاعهم في كثير من الأمر لعنتوا فكيف بكم اليوم» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) أي جعله أحب الأديان إليكم (وَزَيَّنَهُ) أي حسنه وقربه منكم وأدخله (فِي قُلُوبِكُمْ) حتى اخترتموه لأن من أحب شيئا إذا طال عليه قد يسأم منه والإيمان في كل يوم يزداد في القلب حسنا وثباتا وبذلك تطيعون رسول الله صلىاللهعليهوسلم (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ) قال ابن عباس : يريد الكذب (وَالْعِصْيانَ) جميع معاصي الله تعالى وفي هذه لطيفة ، وهو أن الله تعالى ذكر هذه الثلاثة الأشياء في مقابلة الإيمان الكامل المزين في القلب المحبب إليه. والإيمان الكامل : ما اجتمع فيه ثلاثة أمور : تصديق بالجنان ، وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان. فقوله : وكره إليكم الكفر في مقابله.
قوله : حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وهو التصديق بالجنان والفسوق وهو الكذب في مقابلة الإقرار باللسان فكره إلى عبده المؤمن الكذب وهو الجحود وحبب إليه الإقرار بشهادة الحق والصدق وهو : لا إله إلا الله. والعصيان في مقابلة العمل بالأركان فكره إليه العصيان وحبب إليه العمل الصالح بالأركان ثم قال تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) إشارة إلى المؤمنين المحبب إليهم الإيمان المزين في قلوبهم أي : أولئك هم المهتدون