أما وجود المعنى بغير وجوده اللفظي فينحصر في نحوين ، وكلاهما لا مدخل للفظ فيه أبدا :
أحدهما : وجوده الحقيقي الذي يظهر به في نظام الوجود من الجواهر والأعراض ، ولا بد في تحقيق هذا الوجود من تحقق أسبابه وعلله ، والألفاظ أجنبية عنها بالضرورة.
ثانيهما : وجوده الاعتباري ، وهو نحو من الوجود للشيء ، إلا أنه في عالم الاعتبار لا في الخارج ، وتحقق هذا النحو من الوجود إنما هو باعتبار من بيده الاعتبار ، واعتبار كل معتبر قائم بنفسه ، ويصدر منه بالمباشرة ، ولا يتوقف على وجود لفظ في الخارج أبدا ، أما إمضاء الشارع أو إمضاء العقلاء للعقود أو الإيقاعات الصادرة من الناس ، فهو وإن توقف على صدور لفظ من المنشئ أو ما بحكم اللفظ ، ولا أثر لاعتباره إذا تجرد من المبرز من قول أو فعل ، إلا أن الإمضاء المذكور متوقف على صدور لفظ قصد به الإنشاء ، وموضع البحث هو مفاد ذلك اللفظ الذي جيء به في المرحلة السابقة على الإمضاء.
وعلى الجملة : إن الوجود الحقيقي والاعتباري للشيء لا يتوقفان على اللفظ ، وإما إمضاء الشرع أو العقلاء للوجود الاعتباري فهو وإن توقف على صدور لفظ أو ما بحكمه من المنشئ ، إلا أنه يتوقف عليه بما هو لفظ مستعمل في معناه ، وأما الوجود اللفظي فهو عام لكل معنى دل عليه باللفظ ، فلا أساس للقول المعروف : «الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ».
والصحيح : إن الهيئات الإنشائية وضعت لإبراز أمر ما من الأمور النفسانية وهذا الأمر النفساني قد يكون اعتبارا من الاعتبارات كما في الأمر والنهي والعقود والإيقاعات ، وقد يكون صفة من الصفات ، كما في التمني والترجّي ، فهيئات الجمل