(المقالة الثانية وفيها مسائل)
(المسألة الأولى) : في قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) [البقرة : الآية ٢١٩].
(اعلم) أن قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) [البقرة : الآية ٢١٩]. ليس فيه بيان أنهم عن أي شيء سألوا فإنه يحتمل أنهم سألوا عن حقيقته وماهيته ، ويحتمل أنهم سألوا عن حال الانتفاع به ، ويحتمل أنهم سألوا عن حل شربه وحرمته إلا أنه تعالى لما أجاب بذكر الحرمة دل تخصيص الجواب على أن ذلك السؤال كان واقعا عن الحل والحرمة ، وفي الآية بحث قالوا أربع آيات نزلت بمكة قوله تعالى : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ) [النّحل : الآية ٦٧]. (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً.)
وكان المسلمون يشربونها وهي حلال لهم ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة قالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزل فيها قوله تعالى : فشربها قوم وتركها آخرون ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا فقام بعضهم يصلي فقرأ (قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون). فنزل قوله تعالى : فقل من شربها ثم اجتمع قوم من الأنصار وفيهم سعد بن أبي وقاص فلما سكروا وافتخروا وتناشدوا الأشعار حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء للأنصار فضربه أنصاري بلحي بعبر فشجه شجة موضحة فشكا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزل (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) [المائدة : الآية ٩٠]. إلى قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : الآية ٩١]. فقال عمر : انتهينا يا رب قال القفال ـ رحمهالله ـ الحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أن الله تعالى علم أن القوم ، قد كانوا ألفوا شرب الخمر.
وكان انتفاعهم بذلك كثيرا فعلم لو أنه منعهم دفعة واحدة لشق ذلك عليهم فلا جرم أنه استعمل في التحريم هذا التدريج ، وهذا الرفق ، ومن الناس من قال بأن الله حرم الخمر ، الميسر بهذه الآية ثم نزل قوله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النّساء : الآية ٤٣] فاقتضى ذلك تحريم شرب الخمر وقت الصلاة ؛ لأن شارب الخمر لا يمكنه أن يصلي مع السكر ، فكان المنع من ذلك منعا من الشرب ضمنا ، ثم نزلت آية المائدة فكانت في غاية القوة في التحريم ، وعن الربيع بن أنس أن هذه الآية نزلت بعد تحريم الخمر.