(المسألة الثالثة) :
في كائنات الجو من الأضواء والنيران الشهبية وفيه مباحث :
(المبحث الأول في السراب):
قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩)) [النّور : الآية ٣٩].
(اعلم) أنه سبحانه لما بين حال المؤمن وأنه في الدنيا يكون في النور وبسببه يكون متمسكا بالعلم الصالح ، ثم بين أنه في الآخرة يكون فائزا بالنعيم المقيم والثواب العظيم أتبع ذلك بأن بين أن الكافر في الآخرة في أشد الخسران وفي الدنيا في أعظم أنواع الظلمات ، وضرب لكل واحد منهما مثلا أما المثل الدال على الخيبة في الآخرة فهو قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) [النّور : الآية ٣٩]. (السراب) : ظاهر بصرية حاصلة من انعكاس الأشعة الضوئية وانكسارها معا فإن المرئيات إذا أبصرت من بعد كاف لأبصارها شوهدت صورها إما مستقيمة أو مائلة أو منقلبة وحوافي تلك الصور دائما تكون مغايرة لها إما يسيرا أو كثيرا ، وهذه الظاهرة كثيرا ما تشاهد في قفار الديار المصرية أيام الحر إذا كان الجو صافيا شفافا ، والهواء ساكنا فيتهيأ للناظر من بعد أن أمامه بركة ماء واسعة ، وسبب ذلك أنه إذا اشتدت سخونة الرمل من حر الشمس سخنت الطبقة السفلى من الهواء التي تلي الأرض فيحدث فيها حركات تموجية تظهر للبصر تصير جوا في صور المرئي غير مستوية ، ويلزم من سخونة تلك الطبقة تخلخلها وصعود جزء منها إلى ما فوقها من الطبقات فتكون تلك الطبقات أكثف من التي تحتها ، ويكون هواء البقعة التي سخنته بعيدا عن موقعه الطبيعي من الأرض ، فبوصول الضوء إلى ذلك الهواء الكثيف ، وخروجه عنه ينكسر ، فيتخيل المرئي للرائي بصورة جديدة أعني أنه يظهر له أن جزءا منها مستقر في موضعه والواقع ليس كذلك ، والسبب المتمم لرؤية السراب بلون الماء هو لون السماء المنعكس للأرض ، وكلما قرب الإنسان من موضع السراب انتقل أمامه أو على جانبيه بحسب تغير أسطحة الأرض الموجب لتغير انعكاس الضوء ولو عمل في هذا بموجب ما تدركه حاسة البصر لسعي الإنسان أبدا إلى ما لا يلحقه ، وقد غش السراب جملة أشخاص ، ومن جملة من انغش في ذلك الجيش الفرنساوي فإنه أول ما قدم إلى مصر وصار بقفارها ورمالها رآه فلما رآه ظن أنه بركة ماء فتوجه إليه رشدة عطشه ليشرب فلم ينل إلا المشقة والعناء.