الجالسة جارية فللغلبة ترك الموصوف ، وأقيمت الصفة مقامه فقوله تعالى : (وَلَهُ الْجَوارِ) [الرّحمن : الآية ٢٤].
أي السفن الجاريات على أن السفينة أيضا فعيلة من السفن ، وهو النحت ، وهي فعيلة بمعنى فاعلة عند أبي دريد أي تسفن الماء أو فعيلة بمعنى مفعولة عند غيره بمعنى منحوتة ، فالجارية والسفينة جاريتان على الفلك ، وفيه لطيفة لفظية : وهي أن الله تعالى لما أمر نوحا عليهالسلام باتخاذ السفينة قال : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) [هود : الآية ٣٧].
ففي أول الأمر قال لها الفلك ؛ لأنها بعد لم تكن جرت ، ثم سماها بعد عملها سفينة كما قال : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) [العنكبوت : الآية ١٥]. وسماها جارية كما قال تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) (١١) [الحاقّة : الآية ١١]. وقد عرفنا أمر الفلك وجريها. وصارت كالمسماة بها ، فالفلك قبل الكل ثم السفينة ثم الجارية.
(المسألة الثالثة)
ما معنى المنشآت نقول فيه وجهان :
(أحدهما) :
المرفوعات من نشأت السحابة إذا ارتفعت وأنشأه الله إذا رفعه وحينئذ ما هي بنفسها مرتفعة في البحر ، وأما مرفوعات الشراع.
(وثانيهما) : المحدثات الموجودات من أنشأ الله المخلوق أي خلقه فإن قيل : الوجه الثاني بعيد لأن قوله : (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) [الشّورى : الآية ٣٢]. متعلق بالمنشآت فكأنه قال : وله الجواري التي خلقت في البحر كالأعلام وذلك غير جيد والدليل على صحة ما ذكرنا أنك تقول الرجل الجريء في الحرب كالأسد فيكون حسنا ولو قلت : الرجل العالم بدل الجريء في الحرب كالأسد لا يكون كذلك ، فنقول : إذا تأملت فيما ذكرنا من كون الجارية صفة أقيمت مقام الموصوف كان الإنشاء بمعنى الخلق لا ينافي قوله : (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ.) لأن التقدير حينئذ له السفن الجارية في البحر كالأعلام ، فيكون أكثر بيانا للقدرة كأنه قال : له السفن التي تجري في البحر كالأعلام أي كأنها الجبال والجبال لا تجري إلا بقدرة الله تعالى ، فالأعلام جمع علم الذي هو الجبل ، وأما الشراع المرفوع كالعلم الذي هو معروف ، فلا عجب فيه ، وليس العجب فيه كالعجب في جري الجبل