(المسألة الثانية) :
اعلم أنه تعالى استدل بأحوال السماوات ، وبأحوال الشمس والقمر ، وبأحوال الأرض ، وبأحوال النبات ، أما الاستدلال بأحوال السماوات فقوله : (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) [الرّعد : الآية ٢]. فالمعنى أن هذه الأجسام العظيمة بقيت في الجو العالي ، ويستحيل أن يكون بقاؤها هناك لأعيانها ولذواتها لوجهين :
(الأول) : أن الأجسام متساوية في تمام الماهية ولو وجب حصول جسم في حيز معين لوجب حصول كل جسم في ذلك الحيز.
(والثاني) : أن الخلاء لا نهاية له والأحياز المعترضة في ذلك الخلاء الصرف غير متناهية ، وهي بأسرها متساوية ولو وجب حصول جسم في حيز معين لوجب حصوله في جميع الأحياز ضرورة أن الأحياز بأسرها متشابهة فثبت أن حصول الأجرام الفلكية في أحيازها وجهاتها ليس أمرا واجبا لذاته ، بل لا بد من مخصص ومرجح ، ولا يجوز أن يقال إنها بقيت بسلسلة فوقها ولا عمد تحتها وإلا لعاد الكلام في ذلك الحافظ ولزم المرور إلى ما لا نهاية له وهو محال ، فثبت أن يقال الاجرام الفلكية في أحيازها العالية لأجل أن مدبر العالم تعالى وتقدس أوقفها هناك ، فجعل لكل مجموع نجمي سرا ساريا يسمى بقوة الجذب والدفع فهذا البرهان قاهر على وجود الإله القاهر القادر ، ويدل أيضا على أن الإله ليس بجسم ولا مختص بحيز ؛ لأنه لو كان حاصلا في حيز معين لامتنع أن يكون حصوله في ذلك الحيز لذاته ولعينه لما بينا أن الأحياز بأسرها متساوية فيمتنع أن يكون حصوله في حيز معين لذاته ، فلا بد وأن يكون بتخصيص مخصص ، وكل ما حصل بالفاعل المختار فهو محدث فاختصاصه بالحيز المعين محدث وذاته لا تنفك عن ذلك الاختصاص ، وما لا يخلو عن الحادث فهو حادث فثبت أنه لو كان حاصلا في الحيز المعين لكان حادثا وذلك محال ، فثبت أنه تعالى متعال عن الحيز والجهة ، وأيضا كل ما سماك فهو سماء فلو كان تعالى موجود في جهة فوق لكان من جملة السماوات فدخل تحت قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) [الرّعد : الآية ٢]. فكل ما كان مختصا بجهة فوق فهو محتاج إلى حفظ الإله بحكم هذه الآية فوجب أن يكون الإله منزها عن جهة فوق.
أما قوله : (تَرَوْنَها) [الرّعد : الآية ٢]. ففيه أقوال :
(الأول) : أنه كلام مستأنف ، والمعنى رفع السماوات تغير عمد ، ثم قال : (تَرَوْنَها) [الرّعد : الآية ٢]. أي وأنتم ترونها أي مرفوعة بلا عماد.