توضيحه : أنّ للمولى بما أنّه مولى ، وبما أنّه طبيب ، وبما أنّه عاقل بصير ، وبما أنّه كذا وكذا ألسنة شتّى ، وهو يتكلّم بكلّ لسان ، فتارة يتكلّم بلسان مولويّته وتارة يتكلّم بلسان طبابته ، ويقول لعبده : اشرب الدواء الفلاني ، كما يقول لسائر الناس ذلك ، وثالثة يتكلّم بما أنّه عاقل بصير.
وحكم طلبه في كلّ لسان لا يختلف عن حكم طلب أرباب ذلك اللسان من سائر الناس. فإذا أمر بما أنّه طبيب كان حكم طلبه هذا كحكم طلب سائر الأطبّاء ، أو طلب بما هو عاقل كان حكم طلبه هذا حكم طلب سائر العقلاء في أنّه لا يجب امتثاله. ولا يطلق الأمر على طلبه إلّا بعناية ومصحوبا بالقرينة كما يقال : الأمر الإرشادي على طلبه بما هو أحد العقلاء ، ولذا قال صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ في جواب من قال : أتأمرني يا رسول الله! ـ : «لا ، بل إنّما أنا شافع» (١). (٢).
ثمّ إنّ في معنى العالي غموضا ، والمتيقّن من معناه هو البارئ جلّ وعلا والأنبياء والأولياء والآباء والأمّهات. وأمّا مطلق من له نعمة على الشخص ، أو يتّقى سوطه وسيفه ، فهو وإن شارك المولى في وجوب إطاعته جزاء لأياديه ، أو اتّقاء من شرّه وأذاه ، إلّا أنّه ليس عاليا ولا يطلق أمر على طلبه.
واعلم أنّ الطلب الاستحبابي ليس بأمر ـ بل ولا طلب ـ وإنّما هو إرشاد إلى تحصيل مصالح الفعل وجلب عوائده ومنافعه ـ سواء كانت منافع ذاتيّة ، أو كانت منافع جعليّة ، أعني الثواب والأجر الذي التزم به المولى جزاء على العمل ترغيبا للمكلّف على العمل ، وتحبيبا للفعل في نظر المكلّف ـ فالمولى ابتداء يجعل الأجر على العمل ، ثمّ يظهر ذلك للمكلّف بعبارته المطابقي كما هو الغالب في أخبار المستحبّات ، أو ينشئ طلب الفعل تنبيها على أنّه جعل الثواب على العمل فإنّ العقل حاكم بحسن الفعل تحصيلا لذلك الثواب ، وأيضا تحصيلا لمنافع الفعل الموجودة فيه.
وهذا الذي ذكرناه يناسب مادّة الاستحباب ؛ فإنّه تحبيب للفعل في نظر المكلّف حتّى يختاره بطبعه لا كرها وعنفا. وهذا الجعل للأجر وإن كان موجودا في الواجبات أيضا ، لكنّ
__________________
(١) سنن أبى داود ٢ : ٢٧٠ / ٢٢٣١.
(٢) فإنّ لازم قوله : «لا» في جواب من قال له : أتأمرني ، أنّ الأمر مأخوذ فيه المولويّة من المولى والعبوديّة من العبد ، وهذا المعنى ليس بمأخوذ في الشفاعة.