الوجوب بحكم العقل
واعظك وقائدك نفسك وباطن نفسك ؛ ولا سبيل لغيرك في التوصّل إلى فعلك الاختياري إلّا بوسيلة نفسك وتهيئة مقدّمات وترتيب أمور توجب بعث نفسك للعضلات وتحريكها لها نحو المراد ، ومن تلك المقدّمات بعث المولى نحو فعل من الأفعال ؛ فإنّ في هذا الموضوع يحكم عقلك بالامتثال ويحرّكك ويبعثك نحو الإطاعة وإنفاذ مراد المولى.
فصحّ أن نقول : إنّ كلّ إيجاب وإلزام فهو من العقل وبحكم من العقل ، فكلّ إلزام عقلي ، وليس شيء من الإلزام يكون منم المولى ؛ وإن أسند إلى المولى وقسّم الإيجاب إلى عقلي وشرعي فذلك باعتبار المقدّمة البعيدة التي رتّبها الشارع ، فأوجب إلزام العقل وحكمه بالحركة نحو الفعل ، وبهذا الاعتبار صحّ نسبة الإيجاب إلى كلّ من أوجب إلزام العقل نحو الفعل كمن أوعد بالجزاء على الفعل.
نعم ، الخارج عن النفس شأنه الجبر والاضطرار مثل أن يسحبك [شخص] ويدخلك الدار ، أمّا لو أراد الشخص دخولك الدار اختيارا فلا سبيل له إليه إلّا بترتيب مقدّمات يلزمك عقلك بالدخول ، أو يرجح لك الدخول في موضوع تلك المقدّمات ، والمقدّمات المنتهية إلى ذلك إلى ما شاء الله ، ومن ذلك طلب المولى للفعل.
والظاهر أنّ كلّ أوامر المولى ملزمة ، يعنى موجبة لإلزام العقل بالإطاعة ، ولا شيء في أوامره استحبابيّة يرخّص العقل في ترك الإطاعة وإلقاء طلب المولى وراء الظهر وسحقه (١). فتقسيم أوامر الشرع إلى إيجابيّة واستحبابيّة باطل ، بل كلّ أوامر الشرع إيجابيّة.
وأمّا الاستحباب فذلك ليس من مقولة الطلب ، بل هو تحبيب للفعل بالنسبة إلى الطرف القابل بجعل الأجر والثواب لكي يختاره شوقا إليه ورغبة منه ؛ فإنّه وإن كان كارها للفعل لمشقّته ، لكن يكون راغبا له بما يرى أنّ في إتيانه الأجر والثواب ، كالحمّال يحمل الحمل الثقيل شوقا إليه لما يرى في فعله من الأجر.
__________________
(١) السّحق : البعد.