فقوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى)(١) ، هداية من النوع الأوّل. وقوله تعالى : (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ)(٢) ، هداية من النوع الثاني. وهكذا يختلف المعنى حسب اختلاف الموارد.
مراتب الهداية ودرجاتها
للهداية ـ حسب الاستعمال القرآني ـ مراتب ودرجات ، منها : فطريّة وأخرى : إرشاديّة ، وثالثة : فيضيّة (إلهام وعناية ربّانية) ، وتنتهي إلى عصمة إلهيّة خصّ بها الربّانيّون من أنبياء وأولياء مقرّبين. نلخّصها حسب التالي :
المرتبة الأولى : هداية فطريّة مرتكزة في جبلّة الأشياء من حيوان ونبات وجماد ، فضلا عن الإنسان .. إذ ما من موجود وهو يهتدي ـ اهتداء ذاتيّا ـ إلى ما يلائمه من صلاح أو ينافره من فساد ، فينجذب إليه انجذابا ذاتيّا ، أو ينفر منه نفارا حسب طبعه وذاته. وذلك بدافع فطرته التي جبله الله عليها ، ليستقيم الحياة ويستتبّ أمر النظام ، في أحسن وجه وأكمل هندام.
(رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى)(٣). (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى)(٤) الأمر الّذي نلمسه بوضوح في نظام الكون من غير تحوير أو تغيير. (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(٥). وهو النظام الكوني السائد على المخلوق كلّه ، سنّة الله الّتي جرت في الخلق (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً)(٦).
المرتبة الثانية : قدرة تفكيريّة جبّارة (العقل) ركّبها الله تعالى في الإنسان ، ليمتاز على سائر الحيوان وليستطيع التغلّب على طاقات الأرض والسّماء فيسخّرها في سبيل منافعه في الحياة .. (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً)(٧) ، أي جعلكم بحيث تستخدمونها في مآربكم.
هذا ما يعود إلى جانب المادّيّات من حياة البشر ، وأمّا جانب معنويّاته ـ التي تتبلور فيها حياته الإنسانيّة العليا ـ فقد منحه الله قدرة إدراك خارقة ، يميّز بين الخير والشّر تمييزا ذاتيّا ، كما يميّز بين
__________________
(١) فصلت ٤١ : ١٧.
(٢) الزمر ٣٩ : ٣٧.
(٣) طه ٢٠ : ٥٠.
(٤) الأعلى ٨٧ : ٣.
(٥) الأنبياء ٢١ : ٣٣.
(٦) فاطر ٣٥ : ٤٣.
(٧) الجاثية ٤٥ : ١٣.