قائما بمجموع اللفظ والمحتوى : في إناقة لفظ وفخامة معنى ، في جمال وبهاء.
وفي التاريخ عبر تؤثر عن أناس حاولوا معارضة القرآن ، لكنّهم أتوا بكلام لا يشبه القرآن ولا يشبه كلام أنفسهم ، بل نزلوا إلى ضرب من السخف والتفاهة وفضحوا أنفسهم من غير دراية. فمن حدّثته نفسه أن يعيد هذه التجربة فلينظر في تلك العبر ، ومن لم يرعو فليصنع ما شاء. ومن جرّب المجرّب حلّت به الندامة.
ومن كانت عنده شبهة ، زاعما أنّ في الناس من يستطيع الإتيان بمثله ، فليراجع أدباء عصره وليسألهم : هل يقدر أحد منهم على ذلك؟ فإن قالوا : نعم ، لو نشاء لقلنا مثل هذا! فليقل لهم : هاتوا برهانكم وجرّبوا أنفسكم! وإن قالوا : لا طاقة لنا به ، فليقل لهم : أيّ شيء أكبر شهادة على الإعجاز من الشهادة على العجز. وإنّ بضعة النفر الّذين انغضّوا إليه رؤوسهم ، باؤوا بالخزي والهوان وسحب التاريخ على آثارهم ذيل النسيان (١).
بماذا وقع التحدّي؟
إنّما وقع التحدّي بفضيلة الكلام ، ولها مقاييس بها يعرف ارتفاع شأن الكلام وانحطاطه ، ممّا فصّله علماء البيان. وبها تتفاوت درجات الكلام ويقع بها التفاضل بين أنحائه من رفيع أو وضيع.
وقد أشار السكّاكي إلى طرف من تلكم المقاييس الّتي هي المعيار لارتفاع شأن الكلام وضعته ، قال ـ بعد أن ذكر أنّ مقامات الكلام متفاوتة ، ولكلّ كلمة مع صاحبتها مقام ، ولكلّ حدّ ينتهي إليه الكلام مقام ـ : وارتفاع شأن الكلام في الحسن والقبول ، إنّما هو بمصادفته لما يليق به من هذه المقامات.
قال : فحسن الكلام تحلّيه بشيء من هذه المناسبات والاعتبارات ، بحسب المقتضيات ، الّتي يفصّلها فنّ المعاني والبيان. قال : والبلاغة تتزايد حتّى تبلغ قمّتها وهو حدّ الإعجاز ، الّذي لا يستطيع إنسان أن يبلغه ، مادام قيد الذهول والنسيان.
إذن فالتفاضل بين كلامين إنّما هو بهذه الاعتبارات وهي لا تحصى ، ولا يمكن ملاحظتها أجمع لمن لم يحط علما بجوامع الأمور (٢).
__________________
(١) الجزء الرابع من التمهيد : ٣٢ و ٣٣.
(٢) التمهيد ٤ : ٣٤.