إلمامة بوجوه إعجاز القرآن
وبعد فينبغي هنا بالمناسبة ، أن نلمّ بمسألة الإعجاز إلمامة قصيرة ، لغرض الوقوف على جوانب عابرة من وجوه هذا الإعجاز الخارق. فنقول :
تفاوتت أنظار العلماء في وجه إعجاز القرآن ولا يزال البحث مستمرّا عن هذا السرّ الّذي هو آية الإسلام :
١ ـ ذهب أرباب الأدب والبيان إلى أنّها الفصاحة البالغة والبلاغة الفائقة ، إن في بديع نظمه أو في عجيب رصفه ، الّذي لم يسبقه مثيل ولا يمكن أن يخلفه بديل.
قد نضّدت عباراته نضدا مؤتلفا ، ونظّمت فرائده نظما متناسقا ، وضعت كلّ لفظة منه في موضعها اللائق بها ، ورصفت كلّ كلمة منه إلى كلمات تناسبها وتوائمها ، وضعا دقيقا ورصفا رقيقا تامّا ، يجمع بين أناقة التعبير وسلاسة البيان ، وجزالة اللفظ وفخامة الكلام ، حلوا رشيقا وعذبا سائغا ، يستلذّه الذوق ويستطيبه الطبع. ممّا يستشفّ عن إحاطة واسعة ومعرفة كاملة بأوضاع اللغة ومزايا الكلام ، ويقصر دونه طوق البشر المحدود.
قالوا في دقّة هذا النظم وروعة هذا النضد : لو انتزعت منه لفظة ، ثمّ أدير بها لغة العرب كلّها على أن يوجد لها نظير في مثل موضعها الخاصّ ، لم يوجد البتّة!!
قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني : أعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نظمه ، وخصائص صادفوها في سياق لفظه ، وبدائع راعتهم في مبادي آيه ومقاطعها ، ومجاري ألفاظها ومواقعها ، وفي مضرب كلّ مثل ، ومساق كلّ خبر ، وصورة كلّ عظة وتنبيه وإعلام ، وتذكير وترغيب وترهيب ، ومع كلّ حجّة وبرهان ، وصفة وتبيان ... وبهرهم أنّهم تأمّلوه سورة سورة وعشرا عشرا وآية آية ، فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها ، ولفظة ينكر شأنها أو يرى أنّ غيرها أصلح هناك أو أشبه أو أحرى أو أخلق ، بل وجدوا اتّساقا بهر العقول ، وأعجز الجمهور ، ونظاما والتئاما ، وإتقانا وإحكاما ، لم يدع في نفس بليغ منهم موضع طمع ، حتّى خرست الألسن عن أن تدّعي وتقول ، وخلدت القروم (١) فلم تملك أن تجول وتصول (٢).
__________________
(١) القرم : العظيم الشأن. يقال : خلد بالمكان أي استكن وغمّه الخمول.
(٢) دلائل الإعجاز : ٢٨. وراجع : التمهيد ٥ : ٢٠.