القرآن ، خارجة من مخارجها الشحيحة ، من نظم تلك الحروف ورصفها وترتيب أوضاعها فيما بينها : هذا ينقر ، وذاك يصفر ، وثالث يهمس ، ورابع يجهر ، وآخر ينزلق عليه النفس ، وآخر يحتبس عنده النفس. فترى الجمال النغمي ماثلا بين يديك في مجموعة مختلفة ولكنّها مؤتلفة ، لا كركرة ولا ثرثرة ، ولا رخاوة ولا معاظلة ، ولا تناكر ولا تنافر ، وهكذا ترى كلاما ليس بالبدويّ الجافي ولا بالحضريّ الفاتر ، بل هو ممزوج مؤلّف من جزالة ذاك ورقّة هذا ، مزيجا كأنّه عصارة اللغتين وسلالة اللهجتين.
نعم من هذا الثوب القشيب يتألّف جمال القرآن اللفظي ، وليس الشأن في هذا الغلاف إلّا كشأن الأصداف ، تتضمّن لآلي نفيسة ، وتحتضن جواهر ثمينة. فإن لم يلهك جمال الغطاء عمّا تحته من الكنز الدفين ، ولم تحجبك بهجة الستار عمّا وراءه من السرّ المصون ، ففليت القشرة عن لبّها ، وكشفت الصدفة عن درّها ، فنفذت من هذا النظام اللفظي إلى تلك الفخامة المعنويّة ، تجلّى لك ما هو أبهى وأبهر ، ولقيت منه ما هو أبدع وأروع. تلك روح القرآن وحقيقته ، وجذوة موسى الّتي جذبته إلى نار الشجرة في شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة ، فهناك نسمة الروح القدسيّة : (إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)(١).
وقال الأستاذ الرافعي : كان العرب يتساجلون الكلام ويتقارضون الشعر ، وكان أسلوب الكلام عندهم واحدا : حرّا في المنطق وجزلا في الخطاب ، في فصاحة كانت تؤاتيهم الفطرة وتمدّهم الطبيعة ، فلمّا ورد عليهم أسلوب القرآن رأوا ألفاظهم بأعيانها متساوقة ، ليس فيها إعنات ولا معاياة. ووجوه تركيبه ونسق حروفه ونظم جمله وعبائره ، ما أذهلهم هيبة وروعة ، حتّى أحسّوا بضعف الفطرة وتخلّف الملكة. ورأى بلغاؤهم جنسا من الكلام غير ما هم فيه ، رأوا حروفه في كلماته ، وكلماته في جمله ، ألحانا نغميّة رائعة ، كأنّها لائتلافها وتناسقها قطعة واحدة ، قراءتها هي توقيعها ، فلم يفتهم هذا المعنى وكان أبين لعجزهم.
وكلّ الّذين يدركون أسرار الموسيقى وفلسفتها النفسيّة يرون أن ليس في الفنّ العربيّ بجملته شيء يعدل هذا التناسب الطبيعي في ألفاظ القرآن وأصوات حروفه. وما أحد يستطيع أن يغتمز في ذلك حرفا واحدا. والقرآن يعلو على الموسيقى ؛ إنّه مع هذه الخاصيّة العجيبة ليس من الموسيقى.
__________________
(١) القصص ٢٨ : ٣٠. راجع : النبأ العظيم للأستاذ درّاز : ٩٤ ـ ٩٩.