إنّ مادّة الصوت هي مظهر الانفعال النفسي في الأنغام الموسيقيّة ، بسبب تنويع الصوت مدّا وغنّة ولينا وشدّة وما يتهيّأ له من حركات مختلفة ، وبمقدار ما يكسبه من الحدرة والارتفاع والاهتزاز ممّا هو بلاغة الصوت في لغة الموسيقى.
فلو اعتبرنا ذلك في تلاوة القرآن ، لرأيناه أبلغ ما تبلغ إليه اللغات كلّها ، في هزّ الشعور واستثارة الوجد النفسي. ومن هذه الجهة تراه يغلب على طبع كلّ عربيّ أو عجميّ. وبذلك يؤوّل ما ورد من الحث على تحسين الصوت عند قراءة القرآن.
وما هذه الفواصل الّتي تنتهي بها آيات القرآن إلّا صورا تامّة للأبعاد الّتي تنتهي بها جمل الموسيقى ، وهي متّفقة مع آياتها في قرارات الصوت اتفاقا عجيبا يلائم نوع الصوت ، والوجه الّذي يساق عليه ، بما ليس وراءه من العجب مذهب. وتراها أكثر ما تنتهي بالنون والميم ، وهما الحرفان الطبيعيّان في الموسيقى نفسها. أو المدّ ، وهو كذلك طبيعيّ في القرآن (١).
قال ابن الأعرابي (٢) : كانت العرب تتغنّى بالركبانيّ (٣) إذا ركبت وإذا جلست في الأفنية وعلى أكثر أحوالها. فلمّا نزل القرآن أحبّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أن تكون هجّيراهم (٤) بالقرآن مكان التغنّي بالركباني (٥).
قال الزمخشري : كانت هجّيرى العرب التغنّي بالركباني ـ وهو نشيد بالمدّ والتمطيط ـ إذا ركبوا الإبل ، وإذا انبطحوا على الأرض ، وإذا قعدوا في أفنيتهم ، وفي عامّة أحوالهم. فأحبّ الرسول أن تكون قراءة القرآن هجّيراهم. فقال ذلك. يعني قوله : ليس منّا من لم يضع القرآن موضع الركباني في اللهج به والطرب عليه (٦).
قال الفيروز آبادي : غنّاه الشعر وغنّى به تغنية : تغنّى به.
__________________
(١) إعجاز القرآن للرافعي : ١٨٨ و ٢١٦. وراجع : التمهيد ٥ : ١٤٦ و ١٤٧.
(٢) هو أبو عبد الله محمّد بن زياد الكوفي مولى بني هاشم أحد العلماء باللغة المشهورين بمعرفتها ؛ كان يحضر مجلسه خلق كثير ، وكان رأسا في الكلام الغريب ، وربما كان متقدّما على أبي عبيدة والأصمعي في ذلك. كان ولادته في رجب سنة ١٥٠. توفّي في شعبان سنة ٢٣١.
(٣) هو نشيد بالمدّ والتمطيط.
(٤) هي زمزمة الغناء ورنّته.
(٥) النهاية لابن الأثير ٣ : ٣٩١.
(٦) الفائق للزمخشري ٢ : ٣٦ مادة : رثث.