وقوله تعالى : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)(١) شبّه الأولاد بأفراخ الطير تستذلّ لدى والديها تستطعمهما وتسترحمهما ، ودليلا على ذلك تبسط أجنحتها على الأرض خفضا وذلّا ، وهي من المبالغة في التشبيه وتصوير حالة الذلّ في موضع ينبغي الذلّ فيه بمكان.
وقوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ)(٢) لو اعتبرنا التشبيه في جملة «فاصدع» فقد شبّهت شوكة المشركين وهيبتهم بصرح زجاجي ، وشبّهت الدعوة بمصادمة هذا الصرح ، وشبّه التأثير البليغ بالصدع ، وهو الأثر البيّن في الزجاجة المصدومة.
وهذا من تشبيه عدّة أشياء بأشياء مع إفاضة الحركة والفعل والانفعال. فقد شبّه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في إبلاغ دعوته للمشركين بمن يرمي بقذائفه إلى قلاع مبنيّة من زجاجات سريعة التكسّر والانهيار.
***
قال : وإن كان ذمّا كان مسّه أوجع وميسه ألذع ، ووقعه أشدّ وحدّه أحدّ ، كما جاء في قوله تعالى ـ في تصوير حالة من أوتي الهداية فرفضها لغيّه وانسلخ منها ـ : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ)(٣) إنّه من التمثيل الرائع وفي نفس الوقت لاذع ، إنّه يمثّل مشهد إنسان يؤتيه الله آياته ويخلع عليه من فضله ويعطيه الفرصة للاكتمال والارتفاع ... ولكن ، ها هو ذا ينسلخ من هذا كلّه انسلاخا ، كمن ينسلخ عن أديم جلده بجهد ومشقّة ، ويتجرّد من الغطاء الواقي والدرع الحامي ، ويهبط من الافق العالي إلى سافل الأرض ، فيصبح غرضا للشيطان ، لا وقاية ولا حمى ، وإذا هو العوبة أو كرة قدم تتقاذفه الأقدار ، لا إرادة له ولا اختيار ، فمثله كمثل كلب هراش لا صاحب له ، ويلهث (٤) من غير هدف. ويتضرّع من غير أن يجد من يشفق عليه.
وهكذا جاء تصويره لمن حمّل ثقل الحقّ ولا يهتدي به بالحمار يحمل أسفارا ، هي أفضل ودائع الإنسان ، يئنّ بثقلها ولا يعي شرف محتواها : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً)(٥).
__________________
(١) الإسراء ١٧ : ٢٤.
(٢) الحجر ١٥ : ٩٤.
(٣) الأعراف ٧ : ١٧٦.
(٤) اللهث : دلع اللسان عطشا أو تعبا.
(٥) الجمعة ٦٢ : ٥.