ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته وإنكارهم ذلك وكتمانهم علم ذلك عن الناس بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيّننّه للناس ولا يكتمونه ، فأخبر الله ـ جلّ ثناؤه ـ أنّهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا.
وقال بعضهم : إنّ الله عنى بهذه الآية جميع أهل الشرك والكفر والنفاق وعهده إلى جميعهم في توحيده ما وضع لهم من الأدلّة على ربوبيّته وعهده إليهم في أمره ونهيه ما احتجّ به لرسله من المعجزات الّتي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها الشاهدة لهم على صدقهم.
قالوا : ونقضهم ذلك تركهم الإقرار بما قد تبيّنت لهم صحّته بالأدلّة وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أنّ ما أتوا به حقّ.
وقال آخرون : العهد الّذي ذكره الله ـ جلّ ذكره ـ هو العهد الّذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم الّذي وصفه في قوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ)(١). ونقضهم ذلك ترك الوفاء به.
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال عندي بالصواب في ذلك قول من قال : إنّ هذه الآيات نزلت في كفّار أحبار اليهود الّذين كانوا بين ظهرانيّ مهاجر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وما قرب منها من بقايا بني إسرائيل ومن كان على شركه من أهل النفاق ، الّذين قد بيّنّا قصصهم. وقد دلّلنا على أنّ قول الله ـ جلّ ثناؤه ـ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ ...) وقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ ...) فيهم أنزلت وفي من كان على مثل الّذي هم عليه من الشرك بالله ، غير أنّ هذه الآيات عندي وإن كانت فيهم نزلت فإنّه معنيّ بها كلّ من كان على مثل ما كانوا عليه من الضلال ، ومعنيّ بما وافق منها صفة المنافقين ، خاصّة جميع المنافقين ، وبما وافق منها صفة كفّار أحبار اليهود جميع من كان لهم نظيرا في كفرهم. وذلك أنّ الله ـ جلّ ثناؤه ـ يعمّ أحيانا جميعهم بالصفة ، لتقديمه ذكر جميعهم في أوّل الآيات الّتي ذكرت قصصهم ، ويخصّ أحيانا بالصفة بعضهم لتفصيله في أوّل الآيات بين فريقيهم ، أعني فريق المنافقين من عبدة الأوثان وأهل الشرك بالله ، وفريق كفّار أحبار اليهود. فالّذين ينقضون عهد الله هم التاركون ما عهد الله إليهم من الإقرار بمحمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم وبما جاء به وتبيين نبوّته للناس ، الكاتمون بيان ذلك بعد علمهم به وبما قد أخذ الله عليهم في ذلك ، كما قال الله ـ جلّ ذكره ـ :
__________________
(١) الأعراف ٧ : ١٧٢.