منه فيها من الفساد وسفك الدماء ، فقد كان طوى عنهم الخبر عمّا يكون من كثير منهم ما يكون من طاعتهم ربّهم وإصلاحهم في أرضه وحقن الدماء ورفعه منزلتهم وكرامتهم عليه ، فلم يخبرهم بذلك ، فقالت الملائكة : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) على ظنّ منها على تأويل هذين الخبرين اللّذين ذكرت ، وظاهرهما أنّ جميع ذرّيّة الخليفة الّذي يجعله في الأرض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء. فقال الله لهم إذ علّم آدم الأسماء كلّها : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنّكم تعلمون أنّ جميع بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء على ما ظننتم في أنفسكم ، إنكارا منه ـ جلّ ثناؤه ـ لقيلهم ما قالوا من ذلك على الجميع والعموم ، وهو من صفة خاصّ ذرّيّة الخليفة منهم.
وهذا الّذي ذكرناه هو صفة منّا لتأويل الخبر لا القول الّذي نختاره في تأويل الآية (١).
قال أبو جعفر : وممّا يدلّ على ما ذكرنا من توجيه خبر الملائكة عن إفساد ذرّيّة الخليفة وسفكها الدماء على العموم :
[٢ / ٩٧٥] ما حدّثنا به ابن أحمد بن إسحاق الأهوازيّ بالإسناد إلى عبد الرحمان بن سابط في قوله : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) قال : يعنون الناس.
وقال آخرون في ذلك.
[٢ / ٩٧٦] بما حدّثنا به بشر بن معاذ بإسناده عن قتادة قال : قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فاستشار الملائكة (٢) في خلق آدم ، فقالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) وقد علمت الملائكة من علم الله أنّه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في الأرض.
قال : وذكر لنا أنّ ابن عبّاس كان يقول : إنّ الله لمّا أخذ في خلق آدم ، قالت الملائكة : ما الله خالق خلقا أكرم عليه منّا ولا أعلم منّا. فابتلوا بخلق آدم ، وكلّ خلق مبتلى ، كما ابتليت السماوات والأرض بالطاعة ، فقال الله : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ)(٣).
__________________
(١) الطبري ١ : ٢٩٤ ـ ٢٩٥.
(٢) وفي الطبعة الجديدة : «فاستخار الملائكة» وهو أيضا بمعنى الاستشارة ، أي استشارهم ليرى الخير والصلاح في ذلك!
(٣) فصّلت ٤١ : ١١.