قال أبو جعفر : وهذا الخبر عن قتادة يدلّ على أنّ قتادة كان يرى أنّ الملائكة قالت ما قالت من قولها : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) على غير يقين علم تقدّم منها بأنّ ذلك كائن ، ولكن على الرأي منها والظنّ ، وأنّ الله ـ جلّ ثناؤه ـ أنكر ذلك من قيلها وردّ عليها ما رأت ، بقوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) من أنّه يكون من ذرّيّة ذلك الخليفة الأنبياء والرسل والمجتهد في طاعة الله (١).
قال : وقد روي عن قتادة خلاف هذا التأويل وهو :
[٢ / ٩٧٧] ما حدّثنا به الحسن بن يحيى بإسناده عن قتادة في قوله : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ...) قال : كان الله أعلمهم إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء.
وبمثل قول قتادة قال جماعة من أهل التأويل منهم الحسن البصري :
[٢ / ٩٧٨] حدّثنا القاسم بإسناده عن الحسن وقتادة قالا : قال الله لملائكته : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) قال لهم : إنّي فاعل ، فعرضوا برأيهم ، فعلّمهم علما وطوى عنهم علما علمه لا يعلمونه ، فقالوا بالعلم الّذي علّمهم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) وقد كانت الملائكة علمت من علم الله أنّه لا ذنب أعظم عند الله من سفك الدماء. ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك. قال : إنّي أعلم ما لا تعلمون. فلمّا أخذ في خلق آدم ، همست الملائكة فيما بينها ، فقالوا : ليخلق ربّنا ما شاء أن يخلق ، فلن يخلق خلقا إلّا كنّا أعلم منه وأكرم عليه منه. فلمّا خلقه ونفخ فيه من روحه أمرهم أن يسجدوا له لما قالوا ، ففضّله عليهم ، فعلموا أنّهم ليسوا بخير منه. فقالوا : إن لم نكن خيرا منه فنحن أعلم منه ، لأنّا كنّا قبله وخلقت الأمم قبله ، فلمّا أعجبوا بعلمهم ابتلوا. فعلّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال : أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين أنّي لا أخلق خلقا إلّا كنتم أعلم منه ، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين.
قال [الحسن] : ففزع القوم إلى التوبة ، وإليها يفزع كلّ مؤمن ، فقالوا : سبحانك لا علم لنا إلّا ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم. قال : يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلمّا أنبأهم بأسمائهم قال : ألم أقل لكم إنّي أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون. لقولهم : ليخلق ربّنا ما شاء فلن يخلق خلقا أكرم عليه منّا ولا أعلم منّا.
قال : علّمه اسم كلّ شيء ، هذه الجبال وهذه البغال والإبل والجنّ والوحش وجعل يسمّي كلّ
__________________
(١) الطبري ١ : ٢٩٥ ـ ٢٩٦ / ٥١٢.