قال تعالى :
(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦))
وهذا أيضا موقف من مواقف بني إسرائيل التعنتيّة ، يقابلون النعم بالعتوّ والكفران بدل أن يشكروها.
من ذلك موقف آبائهم إذا هم يطلبون أن يروا الله جهرة ، والّذين طلبوا هذا المستحيل هم السبعون الّذين اختارهم موسى لميقات ربّه ، وإذا هم يرفضون الإيمان لموسى إلّا أن يروا الله عيانا. والقرآن يواجههم بهذا التجديف (١) الذي صدر من آبائهم ، لينكشف تعنّتهم القديم الذي يشابه تعنّتهم الحاضر مع الرسول الكريم ، فقد شابه الأبناء الآباء حذو النعل بالنعل.
نعم إنّ الدلائل والبيّنات وكذا النعم والآلاء كلّها لا تغيّر من تلك الطبيعة الجاسية (٢) التي لا تؤمن إلّا بالمحسوس ، والتي تظلّ مع ذلك تجادل وتماحل ولا تستجيب إلّا تحت وقع العذاب والتنكيل ، ممّا يوحي بأنّ فترة الإذلال التي قضوها تحت حكم فرعون الطاغية قد أفسدت فطرتهم إفسادا عميقا ، وليس أشدّ إفسادا للفطرة من الذلّ الذي ينشئه الطغيان الطويل ، والّذي يحطّم فضائل النفس البشريّة ، ويحلّل مقوّماتها ، ويغرس فيها المعروف من طباع العبيد : استخذاء تحت سوط الجلّاد ، وتمرّدا حين يرفع عنهم السوط ، وتبطّرا حين يتاح لها شيء من النعمة والقوّة. وهكذا كانت إسرائيل ـ وهكذا هي في كلّ حين.
قال سيّد قطب : ومن ثمّ يجدّفون هذا التجديف. ويتعنّتون هذا التعنّت :
(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً ...)
ومن ثمّ يأخذهم الله جزاء هذا التجديف ، وهم على سفح الجبل في الميقات : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ).
__________________
(١) التجديف : كفران النعم.
(٢) الصعبة القاسية.