وعنى ـ جلّ ذكره ـ بقوله : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) كلوا من مشتهيات رزقنا الذي رزقناكموه. وقيل عنى بقوله : (مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) من حلاله الذي أبحناه لكم ، فجعلناه لكم رزقا.
والأوّل من القولين أولى بالتأويل لأنّه وصف ما كان القوم فيه من هنيء العيش الذي أعطاهم ، فوصف ذلك بالطيب الذي هو بمعنى اللذّة أحرى من وصفه بأنّه حلال مباح.
و «ما» التي مع «رزقناكم» بمعنى «الذي» كأنّه قيل : كلوا من طيّبات الرزق الذي رزقناكموه.
***
وقال في تأويل قوله تعالى : (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) :
وهذا أيضا من الذي استغني بدلالة ظاهره على ما ترك منه. وذلك أنّ معنى الكلام : كلوا من طيّبات ما رزقناكم ، فخالفوا ما أمرناهم به ، وعصوا ربّهم ثمّ رسولنا إليهم ، وما ظلمونا. فاكتفى بما ظهر عمّا ترك. وقوله : (وَما ظَلَمُونا) يقول : وما ظلمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم ، (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). ويعني بقوله : (وَما ظَلَمُونا) : وما وضعوا فعلهم ذلك وعصيانهم إيّانا موضع مضرّة علينا ومنقصة لنا ، ولكنّهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرّة عليها ومنقصة لها. كما :
[٢ / ٢٠٢٩] روى أبو روق ، عن الضحّاك ، عن ابن عبّاس : (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) قال : يضرّون.
وقد دلّلنا فيما مضى على أنّ أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه بما فيه الكفاية ، فأغنى ذلك عن إعادته. وكذلك ربّنا ـ جلّ ذكره ـ لا تضرّه معصية عاص ، ولا يتحيّف خزائنه ظلم ظالم ، ولا تنفعه طاعة مطيع ، ولا يزيد في ملكه عدل عادل ؛ بل نفسه يظلم الظالم ، وحظّها يبخس العاصي ، وإيّاها ينفع المطيع ، وحظّها يصيب العادل (١).
***
وهكذا روى ابن أبي حاتم قريبا ممّا رواه ابن جرير :
قال في قوله تعالى : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ :)
[٢ / ٢٠٣٠] روى القاسم بن أبي أيّوب عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال : ثمّ ظلّل عليهم في
__________________
(١) الطبري ١ : ٤٢٥ ـ ٤٢٦.