قال تعالى :
(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧))
وهذا استعراض آخر لمواقف بني إسرائيل الشنيئة ، جاءت حاضرة العالم الإسلامي في بدء نشوئه وتشكلّه في مدينة الرسول وإذا هي امتداد لمواقفهم الأولى مع أنبيائهم حذو النعل بالنعل ، ملؤها القسوة والجفاء والتعنّت واللجاج.
والخطاب في هذه الآيات إلى الجماعة المسلمة ليأخذوا حذرهم من هؤلاء الّذين مرنوا على المكر والخداع ، بشتّى وسائلهم وأساليبهم في إيقاع الفتنة وبثّ الفساد في الأرض يحذّرها كيدهم ومكرهم على ضوء تاريخهم وجبلّتهم المنحرفة ، فلا تنخدع بأقوالهم ودعاويهم الكاذبة ووسائلهم الماكرة في الفتنة والتضليل.
نعم كانت صورة الجفاف والقسوة والجدب هي التي صوّر الله بها قلوب بني إسرائيل في آيات سبقت ، صورة الحجارة الصلدة التي لا تنضّ منها قطرة ، ولا يلين لها مسّ ، ولا تنبض فيها حياة وهي صورة توحي باليأس من هذه الطبيعة الجاسية الجامدة الخاوية وفي ظلّ هذا التصوير ، وظلّ هذا الإيحاء ، يلتفت السياق إلى المؤمنين ، الّذين يطمعون ـ لحسن نيّتهم ـ في هداية هؤلاء الأشاكس الطباع ، وربما يحاولون أن يبثّوا في قلوبهم الإيمان ، وأن يفيضوا عليها النور يلتفت إلى أولئك المؤمنين بسؤال يوحي باليأس والقنوط.
(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ!) ـ استفهام تعجيب وتيئيس ـ (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) ـ يخونون في أداء رسالة الله ـ (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) ـ وفهموه على حقيقته التي لا ريب فيها ـ (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) فكانوا عن عمد وسوء نيّة يحرّفون الكلم عن مواضعه.