مسألة الخلود في النار
هنا سؤال قديم : كيف يخلد العاصي في النار بذنوب كان لها أمد قصير؟
والجواب الحاسم هو ما جاء في حديث أبي هاشم الآنف مع أبي عبد الله الصادق عليهالسلام : أنّ المجازاة في الدار الأخرى إنّما هي على النوايا التي ترسم شاكلة الإنسان في كيان ذاته فتؤهّله إمّا للقرب الدائم من ساحة قدسه تعالى ، أو الابتعاد أبدا (١).
وبعبارة أخرى : ليست المثوبات والعقوبات في النشأة الأخرى ـ كالمجازاة في هذه الحياة ـ بالمواضعة والجعل الاعتباري المحض بل هي انعكاسات ذاتيّة لأعمال قام بها ، وكانت محاكاة لنفسيّاته التي كانت تدور في خلده وكلّ إناء بالذي فيه ينضح.
وكلّ عمل يقوم به الإنسان من خير أو شرّ ، إنّما ينبؤك عن حسن نيّته أو سوء سجيّته ، ليكون عمله إفراغا لما انطوت عليه سريرته التي هو صنعها طول مزاولاته في الحياة. (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً)(٢).
وهذه الشاكلة التي يرسمها الإنسان لنفسه ، سوف تتبلور بشكل أوفى في دار أخرى ، وتؤتي أكلها ـ من طيّب أو خبيث ـ ذلك الحين بإذن ربّها وهذا ما اصطلحوا عليه من تجسّم الأعمال.
ومن ثمّ لا يستحقّ الخلود في النار إلّا من رانت نفسه وغمرته أدران الغثاثة والفساد.
قال تعالى : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٣).
وكسب السيئة هنا كناية عن محاولة وإصرار في مكسبة السيّئات ، بحيث انهمك فيها وشغلته عن الإنابة والرجوع ، حتّى فارق الحياة ، ولم يترك فيها بصيصا يجعله على رجاء فهذا قد أخلد نفسه إلى الأرض ـ مطاليب سفلى ـ ولم يعمل للارتقاء إلى سماء العلى ، ولا مثقال حبّة (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ)(٤). (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)(٥).
وبذلك تعرف وجه اختصاص الخلود ـ في النار ـ بمن لم يحتفظ بإيمانه ومات كافرا ؛ إذ لو
__________________
(١) تقدّم نقله من الكافي ٢ : ٨٥ / ٥. والعيّاشي ٢ : ٣٣٩ / ١٥٨.
(٢) الإسراء ١٧ : ٨٤.
(٣) البقرة ٢ : ٨١.
(٤) الأعراف ٧ : ١٧٦.
(٥) الكهف ١٨ : ٢٨.