قال تعالى :
(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠))
قلنا : إنّ الخطاب هنا يحمل رائحة التحذير والتذكير ، فلا ينخدعوا بأضاليل اليهود أو يستسلموا لوساوسهم ، ممّا يبلبل أفكارهم ويشوّش عليهم أذهانهم. ومنها الجري على منوالهم في اللجج والجدل مع الرسول وتوجيه أسئلة له لا تنفق. وما هي إلّا تعنّتات وتملّصات للفرار عن التكليف والعمل الجادّ. يدلّ على ذلك ما جاء في الآية من صريح التحذير والاستنكار. استنكار لتشبّه بعض المؤمنين بقوم موسى في تعنّتهم ، وطلب الخوارق منه ، واحدة تلو أخرى لا تنتهي على أيّ حال وإنّما حالة اللجاج والعناد تشتدّ وتتغلّظ كلّما تداوموا عليه واستمرّوا في اللجاج.
وهذا لا ينتهي إلّا إلى حيث مهوى الضلال والكفر والجحود.
كما أنّه في النهاية أيضا ينتهي إلى الاستسلام لقيادة اليهود :
(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ).
والحسد هو ذلك الانفعال النفسي الخسيس الذي فاضت به نفوس اليهود حقدا على المسلمين ، وما زالت تفيض ، وهو الذي انبعثت منه دسائسهم ومكائدهم ولا تزال.
وهنا ـ في اللحظة التي تتجلّى فيها هذه الحقيقة ، وتنكشف تلك النيّة السيّئة. هنا يدعو القرآن المؤمنين بالاصطبار والأخذ بشيمة الوقار فلا يقابلوا الشرّ بالشرّ ، بل الصفح هي شيمة الكريم :
(فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)