قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)
وبعد تلك العظة البالغة العامّة الشاملة ، جاء دور توجيه الخطاب إلى الجماعة المسلمة المعاصرة لنزول الخطاب ، فليكفّوا عن شنيعتهم تلك المقيتة ، أمّا إن لم ينتهوا ، فليعلموا أنّهم بإصرارهم على عملهم الجاهليّ القديم ، معلنون بحرب شعواء ضدّ تعاليم الإسلام ، فيصبحوا بعد إيمانهم كفّارا محاربين لله ولرسوله.
لكنّهم إن تابوا وانتهوا عن مراودة الربا ، فإنّ لهم رؤوس أموالهم مجرّدة تعود إليهم ، أمّا الأرباح الّتي كانوا يتوقّعونها فتعود إلى المدينين. لا تظلمون في اقتضاء ربح ، ولا تظلمون في مصادرة رؤوس أموالكم. وهذا هو مقتضى كلّ عقد فاسد ، أو ما تبيّن فساده بعد ، فإنّ كلّا من العوضين يعود إلى صاحبه القديم.
قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
ولمّا كان قوله تعالى ـ في الآية السابقة ـ : (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) ، قد يستشعر منه استرجاع رؤوس الأموال معجّلة ـ حسب مقتضى انفساخ العقود الباطلة ـ جاءت الآية هنا لاستدراك هذا المعنى ، وأنّ الإسلام لا يفسح المجال للدائن ليطارد المدين المعسر ، حتّى ولو حلّ أجله. فيجب بحكم قانون العدل إنظاره إلى ميسرته ، أو يسمح له بالإبراء والتصدّق بذلك في سبيل مرضاته تعالى. وهذا إحسان إلى جنب ذلك العدل. (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ)(١).
وهذا هو منهج الإسلام الحنيف ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ومن ثمّ عقّبه بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، فإن كانوا صادقين في إيمانهم فليرضخوا لدستوراته الحكيمة المبتنية على أساس العدل والإحسان.
***
ثمّ يجيء التعقيب العميق الإيحاء ، الّذي ترجف منه النفس المؤمنة ، وتتمنّى لو تنزّل عن الدين كلّه ، ثمّ تمضي ناجية من سخط الله يوم الحساب : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ
__________________
(١) النحل ١٦ : ٩٠.