عنده لأجل دهن السراج حتّى أطالع. وكان لي درس أقرؤه على ضوء السراج آخر اللّيل في مسجد الجامع ، وهو في طرف آخر من البلاد ، وأقوم من هناك ـ وقد بقي من اللّيل بقيّة كثيرة ـ ومعي عصا وبين ذلك المنزل وبين المسجد أسواق كثيرة ، وفي آخر اللّيل وليس في شيء منها سراج بل كلّها مظلمة. والداهية العظيمة أنّ عند كلّ دكّان بقّال كلب يقرب من العجل لحراسة ذلك الدكّان. وكنت أجيء وحدي من ذلك المكان البعيد. فإذا وصلت إلى السوق ، لزمت جداره حتّى أهتدي إلى الطريق. وإذا وصلت إلى دكّان البقّال ، شرعت في قراءة الأشعار جهرا حتّى لا يظنّ الكلب أنّي سارق ، بل كان يظنّ أنّنا جماعة عابرين الطريق. وكنت عند كلّ دكّان أحتال على الكلب بحيلة حتّى أخلص منه.
وبقيت على هذا برهة من الزمان. وكنت في مدرسة المنصوريّة وحجرتي فوق ولا كنت أحبّ أحدا يجيء إليّ ولا يمشي إلى قريب منها ، وكنت أحبّ الانفراد والوحدة. وبقيت على هذه الأحوال تلك المدّة.
ثمّ كاتبني والدي ووالدتي وألحوّا عليّ في الوصول إلى الجزائر ، فمضيت إليهم أنا وأخي سنة موج الجزائر الأخير. لأنّ الموج الأوّل موج عواد. فلمّا وصلنا إلى الأهل ، فرحوا بنا لقدومنا ولأنّ كلّ من مضى من تلك البلاد رجع من غير علم. فقالت والدتي : ينبغي أن تتزوّجا حتّى أرضى عنكما. فقلت : إنّ علم الحديث والفقه قد بقي علينا قراءته. فقالت : لا بدّ أن تتزوّجا. وكان الحامل لها على هذا هو أنّا إذا تزوّجنا ألزمنا السكنى معها. فقبلنا كلامها وتزوّجنا.
وبقيت بعد التزويج قريبا من عشرين يوما ، فمضيت إلى زيارة رجل فاضل في قرية يقال لها نهر صالح. فلمّا اجتمعنا وتباحثنا في العلوم العقليّة فقال لي : وا أسفا عليك! كيف فاتك علم الحديث؟ فقلت : وكيف فاتني علم الحديث؟ قال : لقولهم : ذبح العلم في فروج النساء. فرماني في الغيرة فقلت له : والله ـ يا شيخ ـ لا أرجع إلى أهلي. وها أنا إذا قمت من مجلسك ، توجّهت إلى شيراز. فاستبعد قولي. فقمت منه وركبت في سفينة وأتيت إلى القرنة.