ومعنى الآية : (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) من القرية إلى القرية مقدارا واحدا ، نصف يوم ، وقلنا لهم : (سِيرُوا فِيها) في تلك القرى ، (لَيالِيَ وَأَيَّاماً) ؛ ليلا شئتم السير أو نهارا (آمِنِينَ) من الجوع والعطش والسّباع والتّعب ومن كلّ خوف.
ثم إنّهم بطروا النعمة ، وسألوا أن تكون القرى والمنازل بعضها أبعد من بعض ، (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا ؛) أي اجعل بيننا وبين الشّام فلوات ومفاوز لنركب عليها الرّواحل ونتزوّد الأزواد (١) ، ذلك أنّهم قالوا لو كانت ثمارنا أبعد مما هي لكان أجدر أن نشتهيها ، فاجعل بين منازلنا وبين مقصدنا المفاوز. ويقال : كانت هذه المسألة من تجّارهم ليربحوا في أموالهم.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو (بعّد) على وجه الدّعاء. وقرأ ابن الحنفيّة ويعقوب (ربّنا) برفع الباء (باعد) بألف وفتح العين والدلالة على الخبر ، استبعدوا أسفارهم بطرا منهم وأشرا. وقرأ الباقون (رَبَّنا) بفتح الباء و (باعِدْ) بالألف وكسر العين وجزم الدّال على الدّعاء. وقد قرئ (بعد) بضمّ العين و (بين) بالرفع ؛ أي بعد ما يتّصل بسفرنا.
قوله تعالى : (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ؛) يعني بترك الشّكر والطاعة ، وقيل : بالكفر ، (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ ؛) لمن بعدهم يتحدّثون بأمرهم وشأنهم ، ولم يبق منهم ولا من ديارهم أثر. وقوله تعالى : (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ؛) أي فرّقناهم في البلاد المختلفة كلّ تفريق ، وذلك أنّهم شرّدوا في البلاد ، وصاروا بحيث يتمثل بهم العرب يقولون : تفرّق القوم أيدي سبأ وأيادي سبأ.
قال الشعبيّ : (أمّا غسّان فلحقوا بالشّام ، وأمّا الأنصار فلحقوا بيثرب ، وأمّا خزاعة فلحقوا بتهامة ، وأمّا الأزد فلحقوا بعمان) (٢) وكانت غسّان ملوك الشّام.
قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ) ؛ أي فيما فعل بسبأ (لَآياتٍ) ؛ لعبر ودلالات (لِكُلِّ صَبَّارٍ) ، عن معاصي الله ، (شَكُورٍ) (١٩) ؛ لأنعمه.
__________________
(١) في المخطوط صحف العبارة ، فكتب الناسخ : (وتزود الآن واد ذلك).
(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٢٠٢٢).