بعد وفاتي في أفواه بني إسرائيل ، ليذكرونني في صلاتهم ، كما يذكرون إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب عليهمالسلام ، فأوحى الله تعالى : أن هؤلاء ابتليتهم ، وأنت لم تبتل (١) بشيء من بلوائه ، فقال : إلهي ، وبم ابتليتهم؟ فأوحى الله إليه : أنّي ابتليت إبراهيم فصبر على النّار ، فصيّرتها عليه بردا وسلاما ، وابتليت إسماعيل (٢٨٢ ظ) بالغربة عن أبيه ، فصبر ، فآويته وأحسنت مثواه ومثوبته ، وأوفدت إليه أمّة من النّاس ، فأمّنت بهم وحشته ، وأغنيت بهم فقره ، ولممت بهم شعثه ، وابتليت إسحاق بالذّبح ، فصبر لأمري ، ورضي بقضائي ، ففديته بذبح عظيم ، ونجّيته من الكرب الشّديد ، وابتليت يعقوب بفقد حبيبه يوسف ، فقال داود : إلهي فابتليني واجعل اسمي مع أسمائهم في أفواه بني إسرائيل عند صلاتهم ، فأوحى الله إليه : إذ (٢) لم تقبل العافية فستأتيك البليّة ، ثمّ أمهله الله عزوجل حتى نسي مسألته ، فبينا هو ذات يوم في مسجده (٣) يقرأ الزّبور ، وكان ذلك المسجد مشرفا على بستان من بساتين بني إسرائيل ، وفي ذلك البستان عين ماء تنتهي إلى حوض معمول لنساء بني إسرائيل ليغتسلن فيه عند حيضتهنّ ، فبينا هو كذلك إذا سقط حمامة أمامه كأنّها من ذهب ، وجناحاه كالياقوت الأحمر ، وذنبها كالزّمرد (٤) الأخضر ، ومنقارها كالدّرّ الأبيض ، ومخالبها كالفيروزج (٥) الأزرق ، فلمّا رآها أعجبه حسنها ، فظنّ أنّها من طيور الجنّة ، فقام ليأخذها ، فطارت حتى سقطت على حائط ذلك البستان ، فمشى نحوها ، وأهوى بيده إليها ، فأصاب طرف أصابعه جناحها ، وانقضت في البستان ، فظنّ أنّه صرعها ، فأشرف على البستان ، فإذا هو بامرأة من نساء بني إسرائيل تغتسل في ذلك الحوض من أجمل ما يكون من النّساء ، فبقي مسترخيا ينظر إلى جمالها ، وحسن خلقها ، ونظرت المرأة إلى صورة رجل في الماء ، فرفعت رأسها فإذا هي بداود عليهالسلام مشرفا عليها ، فأرخت شعرها ، فجلّل ما بين رأسها إلى قدميها ، فوقعت بقلب داود عليهالسلام ، وسأل عنها ، فأخبر أنّها امرأة أوريا ، وكان أوريا بناحية من أرض الشّام في خيل عظيمة عليها ابن أخت لداود يقاتل خيلا من كفّار ذلك العصر ، ومعهم التّابوت (٦) التي ذكره الله في كتابه : (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) [البقرة : ٢٤٨] ، فكان من تقدّم من بني إسرائيل على التّابوت يوم القيامة ، لم ينصرف حتى يقتل أو يظفر ، فكتب داود إلى ابن أخته يأمره أن يقدّم أوريا أمام التابوت ، فلمّا قرئ الكتاب على أوريا قال : إنّ نبيّ الله داود لم يقدّمني إلا وقد علم
__________________
(١) ك : لتبلك ، وفي ا : تبتلى.
(٢) ع : إن.
(٣) ك : مستجده ، وفي أ : مسجد.
(٤) ع : كالزمر.
(٥) ع : كالفيروج.
(٦) أ : الياقوت.