به» (١) ، والمعنى : أنه تعالى يحاسب عبيده بكل ما أضمروا من السوء أو أظهروا ، وقيل : أنه خبر فلا ينسخ ، إذ النسخ انما يرد على الأمر والنهي (٢) ، فالمراد من المضمر في القلب ما عزم الرجل عليه واعتقده فلا يدخل فيه حديث النفس والوسوسة ، لأن دفع ذلك ليس مما في وسعه (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) الذنب (٣) الكبير (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) على الذنب الحقير ، وكل ما يفعله تعالى عدل منه ، قرئ برفع الراء والباء ، أي فهو يغفر ويعذب وبجزمهما (٤) عطفا على جواب الشرط وهو «يحاسبكم» (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [٢٨٤] من المغفرة والعقوبة.
(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥))
قوله (آمَنَ الرَّسُولُ) الآية لم ينزل به جبرائيل عليهالسلام على محمد صلىاللهعليهوسلم عند البعض وإنما سمعها من الله ليلة المعراج بعد ما جاوز سدرة المنتهى ومنعه الأكثر ، لأن هذه السورة كلها مدنية ، أي صدق النبي عليهالسلام (بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) من آيات القرآن (وَالْمُؤْمِنُونَ) عطف على (الرَّسُولُ) ليكون المؤمنون داخلين فيما آمن به الرسول (كُلٌّ آمَنَ) أي كل واحد من الرسول والمؤمنين صدق (بِاللهِ) إيمان إثبات وتوحيد (وَمَلائِكَتِهِ) إيمان توقير وتعظيم (وَكُتُبِهِ) قرئ مفردا وجمعا (٥) إيمان تصديق أنها من عند الله وتحليل ما أحله وتحريم ما حرمه (وَرُسُلِهِ) إيمان اتباع وإطاعة (٦)(لا نُفَرِّقُ) أي يقولون ، يعني الرسول والمؤمنين لا نميز (بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما قال اليهود والنصارى ، و «أحد» هنا بمعنى الجمع فلذلك أضيف «بين» إليه (وَقالُوا سَمِعْنا) أي أجبنا (وَأَطَعْنا) أي دخلنا في الطاعة ، قيل : لما نزلت هذه الآية قال جبرائيل للرسول عليهماالسلام : إن الله قد أثنى عليك وعلى أمتك فسل تعط ، فقال الرسول (٧)(غُفْرانَكَ) أي أعطينا مغفرتك أو نسأل غفرانك لذنوبنا يا (رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [٢٨٥] أي المرجع.
(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦))
فقال تعالى (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي طاقتها ، وهذا إخبار عن عدله ورحمته (لَها ما كَسَبَتْ) أي للنفس ما عملت من الخير ، يعني لها ثوابه (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) من الشر ، يعني عليها وزره ، وخص الكسب بالخير والاكتساب بالشر ، لأن تحصيل الخير ليس باشتهاء النفس بخلاف الشر فانه لا يكون إلا بانجذاب النفس في تحصيله واجتهادها ، فجعل مكتسبا للنفس وزره ، ولما كان بنو إسرائيل إذا نسوا شيئا من الأوامر أو أخطؤوا بعمل شيء من المناهي عجلت عقوبتهم في الدنيا ، فأمر الله المؤمنين أن يدفعوا ذلك عنهم بالمسألة منه تعالى ، فقالوا (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا) أي إن غفلنا (٨)(أَوْ أَخْطَأْنا) أي تجاوزنا الحد ، قيل : يجوز الدعاء بذلك وإن كان الخطأ والنسيان مرفوعين عن هذه الأمة لقوله عليهالسلام : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» (٩) إعترافا بنعمة
__________________
(١) روى البخاري نحوه ، العتق ، ٦ ، والأيمان ، ١٥ ؛ والنسائي ، الطلاق ، ٢٢ ؛ وابن ماجة ، الطلاق ، ١٦ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ١ / ٤١٥.
(٢) أخذه عن البغوي ، ١ / ٤١٥ ـ ٤١٦
(٣) الذنب ، ب م : للذنب ، س.
(٤) «فيغفر» ، «ويعذب» : قرأ الشامي وعاصم وأبو جعفر ويعقوب برفع الراء والباء من الفعلين ، والباقون بجزمهما. البدور الزاهرة ، ٥٨.
(٥) «وكتبه» : قرأ الأخوان وخلف بكسر الكاف وفتح التاء وألف بعدها علي التوحيد ، والباقون بضم الكاف والتاء علي الجمع. البدور الزاهرة ، ٥٨.
(٦) إطاعة ، ب م : طاعة ، س.
(٧) أخذه عن البغوي ، ١ / ٤١٨ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٢٤٠.
(٨) غفلنا ، ب م : أغفلنا ، س.
(٩) أخرجه ابن ماجة ، الطلاق ، ١٦ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ١ / ٤٢٠.