أسنت فدعت ربها (١) أن يرزقها ولدا ونذرته أن تجعله من خدم بيت المقدس ، فلما أحست في نفسها بالولد قالت (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي) من الولد (مُحَرَّراً) حال من «ما» بمعنى الذي ، ولم يقل محررة ، لأن نذرهما (٢) كان في الغلمان (٣) ، أي عبدا خالصا لله لا يعمل عمل الدنيا ولا يتزوج فيتفرغ لعمل الآخرة ، والمحرر المعتق الذي لم يملك من الحر ، قيل : من كان أسيرا لشهوته فليس بحر (٤)(فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لدعائي (الْعَلِيمُ) [٣٥] بنيتي ، ثم مات عمران فبقيت حنة حاملا بمريم.
(فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦))
(فَلَمَّا وَضَعَتْها) أي ولدت النسمة وهي أنثى (قالَتْ) تحسرا أو اعتذارا أو (٥) توهما أن لا يقبل نذرها لكونها أنثى (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) وهو حال من المفعول في (وَضَعَتْها) ، والأصل وضعته أنثى ، وإنما أنثت لتأنيث الحال (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) بفتح العين وسكون التاء ، فيكون الجملة من مقول الله وبسكون العين وضم التاء (٦) فيكون من مقول حنة ، وكذا قوله (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) يحتمل أن يكون مقول الله وأن يكون مقول حنة ، فلو كانت الجملتان مقول الله كانتا اعتراضا بين قول حنة (٧)(إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) وقولها (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) ، وفائدته التسلية (٨) لنفس حنة والتعظيم لوضعها ويكون المعنى : الله أعلم بسر وضعها أنثى وحكمته ، فانها خير من الذكر في علمه ، لأنه يجعلها آية بولادة عيسى عليهالسلام للعالمين ، وهي جاهلة بذلك ومن جهلها (٩) تحسرت ، فقالت (١٠) : إني وضعتها أنثى وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لها ، واللام فيهما للعهد ، يعني هي أفضل من مطلوبها وهي لا تعلم ، ولو كانتا مقول حنة كان المعنى : أن الله أعلم بسر ما وضعت أنا ، لعل هذه الأنثى خير من الذكر الذي طلبت بالنذر ، وليس الذكر كالأنثى في الخدمة لضعفها (١١) ولما يعترضها من أحوال النساء ، ففيه تحزن لها لوقوع خلاف نذرها لله تعالى ، قوله (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) من مقول حنة ، عطف على قوله «إني وضعتها» ، أي إني جعلت اسمها مريم ، وهو العابدة في لغتهم ، وأرادت بذلك التقرب إلى الله والطلب أن يعصمها من الشيطان ليكون فعلها مطابقا لاسمها ، ولذلك أتبعه بقوله (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها) أي أولادها (مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [٣٦] أي المطرود من الرحمة ، قال عليهالسلام : «ما من مولود يولد إلا والشيطان يخنسه ـ أي يطعنه بإصبعه ـ حين يولد فيستهل صارخا من الشيطان إلا مريم وابنها» (١٢) ، فانه طعن في الحجاب.
(فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧))
(فَتَقَبَّلَها) أي قبل مريم من حنة (رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) أي بأمر ذي قبول مرضي ، فسلك بها سبيل السعداء (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) أي سوي خلقها ، ورباها تربية حسنة ، قيل : كانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في
__________________
(١) ربها ، س : ربه ، ب م.
(٢) نذرهما ، م : نذرهم ، ب س.
(٣) في الغلمان ، ب م : في غلمان ، س.
(٤) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.
(٥) أو ، س : و ، ب م.
(٦) «وضعت» : قرأ الشامي وشعبة ويعقوب باسكان العين وضم التاء ، والباقون بفتح العين وإسكان التاء. البدور الزاهرة ، ٦٢.
(٧) حنة ، ب م : أم مريم ، س.
(٨) التسلية ، ب م : تسلية ، س.
(٩) جهلها ، ب س : جهتها ، م.
(١٠) فقالت ، س م : قالت ، ب.
(١١) لضعفها ، ب م : ـ س.
(١٢) أخرجه البخاري ، الأنبياء ، ٤٤ ؛ ومسلم ، الفضائل ، ١٤٦ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٢٦٣ ؛ والبغوي ، ١ / ٤٥٥.