(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧))
ثم نهاهم عن الغلو الباطل ، لأن الغلو في الدين نوعان ، غلو حق وهو التفتيش عن أباعد معاني الحق والتفحص عن حقائقه بالاجتهاد في تحصيل البراهين ليظهر الحق كما يفعله أهل الحق ، وغلو باطل (١) وهو أن يتجاوز عن الحق بالإعراض عن الحجة الواضحة على الحق لاتباع الشبهة والأغراض كما يفعله أهل الأهواء بقوله (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) غلوا (غَيْرَ الْحَقِّ) وهو الغلو الباطل ، أي لا تتجاوزوا (٢) الحد ولا تتركوا الحق (٣)(وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ) وهم (٤) رؤساؤهم من اليهود والنصارى (قَدْ ضَلُّوا) عن الهدى (مِنْ قَبْلُ) أي قبل نزول القرآن باتباعهم الشيطان في اليهودية والنصرانية (وَأَضَلُّوا كَثِيراً) من أصحابهم (٥)(وَضَلُّوا) مرة ثانية حين بعث النبي عليهالسلام (عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) [٧٧] أي عن طريق الهدى (٦) بتكذيبه حسدا.
(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨))
(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي اليهود وهم أهل أيلة (عَلى لِسانِ داوُدَ) النبي عليهالسلام لما اعتدوا في السبت واصطادوا السمك فيه بعد النهي عنه ، فقال داود : «اللهم العنهم واجعلهم آية» (٧) ، فمسخوا قردة (وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي ولعنوا على لسانه حيث دعا عليهم بسبب كفرهم بعد أكل المائدة فمسخوا خنازير (ذلِكَ) أي اللعن (بِما عَصَوْا) أي بعصيانهم أمر الله (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) [٧٨] أي وبكونهم معتدين ، يعني متجاوزين الحد ظلما في دينهم.
(كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩))
ثم فسر العصيان والاعتداء بقوله (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) أي لم يمتنعوا من فعله ، بل تعودوه ورضوا به فكان الإخلال بالتناهي عن المنكر معصية واعتداء ، ثم قال تعجيبا من سوء فعلهم وتوبيخا لهم (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) [٧٩] من عدم انتهائهم عنه ، واللام في جواب القسم.
(تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠))
ثم قال في منافقي أهل الكتاب بعد الإيمان (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) أي من اليهود (يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من مشركي العرب أو من اليهود ، يعني يتوادونهم ويستمدونهم على حرب النبي عليهالسلام (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ) من العمل لمعادهم (أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) هو المخصوص بالذم لبئس زادهم إلى الآخرة سخط الله عليهم (وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) [٨٠] أي لازمون فيه.
(وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١))
ثم قال توبيخا لهم على اتخاذ غير المؤمنين أولياء (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ) أي بمحمد وموسى عليهماالسلام حقيقة (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ) من القرآن (مَا اتَّخَذُوهُمْ) أي أعداء الدين ، يعني المشركين أو اليهود (أَوْلِياءَ) في العون والنصرة (وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ) أي من مؤمني أهل الكتاب (فاسِقُونَ) [٨١] أي ناقضون العهد وخارجون عن الإسلام.
__________________
(١) باطل ، ب م : الباطل ، س.
(٢) لا تتجاوزوا ، ب س : لا يتجاوزوا ، م.
(٣) ولا تتركوا الحق ، س : وتتركوا الحق ، ب م.
(٤) وهم ، ب س : وهو ، س.
(٥) أصحابهم ، ب م : أصحابه ، س.
(٦) أي عن طريق الهدى ، ب س : ـ م.
(٧) انظر البغوي ، ٢ / ٢٨٦.