إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦))
قوله (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) نزل تذكيرا لأمة محمد عليهالسلام ، أي اذكر إذ قال الله حين رفع عيسى إلى السماء يا عيسى ابن مريم (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) بالاستفهام عنه مع علمه تعالى أنه لم يقل به إظهارا لكذب بني إسرائيل حيث زعموا أن عيسى أمرهم بقوله (اتَّخِذُونِي) أي صيروني (وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) للعبادة ، والصحيح أن هذا السؤال عنه انما يكون يوم القيامة ، لأن هذا استفهام توبيخ وإثبات للحجة على قوم عيسى ، روي : «أن عيسى يدعى يوم القيامة ويدعى النصارى فيقفهم الله ويسأله ليفضحهم على رؤوس الأشهاد» (١) ، قيل : «إذا سمع عيسى هذا الخطاب أخذته الرعدة من هيبة ذلك السؤال حتى سمع صوت عظامه في نفسه وانفجرت عين دم من أصل كل شعرة» (٢) ، ثم (قالَ) عيسى تبرئة لنفسه عن أمره إياهم بذلك (سُبْحانَكَ) أي أنزهك تنزيها عن الشريك (٣)(ما يَكُونُ) أي ما يصح وما ينبغي (لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) أي قول (٤) ما لم يثبت لي بصدق وعدل (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ) لهم (فَقَدْ عَلِمْتَهُ) إذ لا يخفى عليك شيء ما (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) أي معلومي (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) أي معلومك ، وهذا من باب المشاكلة وهو من فصيح الكلام (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [١١٦] بضم الغين وكسرها (٥) ، أي جميع غيب (٦) السموات والأرض لأنك خالقها ومالكها.
(ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧))
(ما قُلْتُ) أي ما ذكرت (لَهُمْ إِلَّا ما) أي الذي (أَمَرْتَنِي بِهِ) أي بذكره لهم في الدنيا من التوحيد ، ثم فسر مذكوره لهم بقوله (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) أي وحدوه (رَبِّي وَرَبَّكُمْ) صفة (اللهَ) أو القول على معناه ، والمفسر هو المأمور به المقول بتقدير «قل» بعد «أن» المفسرة لا الأمر لعدم استقامة المعنى ، لأن الله لا يأمر بأن اعبدوا الله ربي وربكم ، ولا القول ، لأن الكلام يحكي بعده بلا توسط حرف التفسير ، ولا يجوز أن يكون (أَنِ) مصدرية فيكون بدلا من (ما أَمَرْتَنِي بِهِ) أو من الهاء في «به» ، أما الأول فلأنه يلزم أن يكون العامل فيه «قلت» ، لأن البدل في حكم تكرير العامل فيكون المعنى ما قلت لهم إلا عبادته ، والعبادة لا تقال ، وأما الثاني فلبقاء الموصول بلا عائد إليه من صلته ، لأن البدل في حكم الساقط ، وقيل : يجوز كونها مصدرية بأن يكون عطف بيان للهاء لا بدلا (٧) ، وفيه نظر لعدم استقامة المعنى بعين ما مر ، فالمعنى على ما قدرناه : ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن قل لهم اعبدوا الله وحده (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) أي على بني إسرائيل رقيبا أمنعهم من الكفر والمعصية بتبليغ الرسالة منك (ما دُمْتُ فِيهِمْ) أي ما دمت مقيما (٨) بين أظهرهم في الدنيا (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) أي قبضتني ورفعتني إلى السماء (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ) أي الشاهد والحفيظ (عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [١١٧] أي عليم بمقالتي ومقالتهم وبما أحدثوا بعدي.
(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨))
ثم بنى (٩) الكلام على أن (إِنْ)(١٠) التي تدل (١١) على عدم الجزاء بقوله (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) أي مالكهم ومتصرفهم لا اعتراض عليك في تعذيبهم بعد استحقاقهم به (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) أي إن تتجاوز عن ذنوبهم
__________________
(١) عن الضحاك ، انظر السمرقندي ، ١ / ٤٦٩.
(٢) قال نحوه أبو روق ، انظر البغوي ، ٢ / ٣٢٩.
(٣) الشريك ، ب س : الشرك ، م.
(٤) أي قول ، ب م : أي أقول ، س.
(٥) «الغيوب» : قرأ حمزة وشعبة بكسر الغين ، والباقون بضمها. البدور الزاهرة ، ٩٨.
(٦) غيب ، ب م : غيوب ، س.
(٧) نقله المصنف عن الكشاف ، ٢ / ٥٦.
(٨) أي ما دمت مقيما ، س : أي مقيما ، ب م.
(٩) بنى ، ب م : بين ، س.
(١٠) علي أن «إن» ، س : علي أن ، ب م.
(١١) التي تدل ، م : التي يدل ، ب س.