المنزل منك ، جمع آية وهي كل كلام متصل إلى انقطاعه (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) أي القرآن (وَالْحِكْمَةَ) أي مواعظه وأحكامه من الحلال والحرام ليعملوا به (وَيُزَكِّيهِمْ) أي يطهرهم من الكفر والمعاصي (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) أي الذي يقهر من (١) عصاه ولا يغلبه شيء لعزته أو لا يعجزه شيء عما أراد (الْحَكِيمُ) [١٢٩] أي الذي يوافق فعله علمه ، روي أن النبي عليهالسلام قال : «أنا دعوة إبراهيم» ، أي إثر دعائه وبشري عيسي ، لأنه بشر برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد (٢).
(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠))
ثم استفهم استفهام إنكار واستبعاد أن يكون من العقلاء من يرغب عن الحق الواضح بقوله (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) أي بترك شريعته ودينه وهو الإسلام (إِلَّا مَنْ سَفِهَ) أي جهل (نَفْسَهُ) نصب مفعول فلا يتفكر في أمر نفسه ليعرف ربه الذي خلقه فسواه ويعده ، روي عن النبي عليهالسلام إنه قال : «من عرف نفسه فقد عرف ربه» (٣) ، فكل من عبد غير الله فقد جهل نفسه ، ومحل «من» بعد «إلا» رفع على البدل من ضمير (يَرْغَبُ) ، وجاز البدل ، لأن (مَنْ يَرْغَبُ) كلام غير موجب في قوة ليس أحد يرغب إلا الذي سفه ، قوله (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ) بيان لكرامة إبراهيم وخطأ من رغب عن ملته ، أي لقد اخترنا (فِي الدُّنْيا) للنبوة ودين الحق بالوحي (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [١٣٠] أي لمعهم في الجنة ، يعني اخترناه في الدارين فلا يعرض عن دينه من كان له عقل.
(إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١))
(إِذْ قالَ لَهُ) ظرف ل «اصطفينا» أو منصوب باذكر مقدرة ، أي أمره (رَبُّهُ) بقوله (أَسْلِمْ) أي أخلص واستقم على الإسلام ، وذلك حين خرج من الغار ونظر إلى الكوكب والقمر والشمس فألهمه الله الإخلاص (قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [١٣١] أي أخلصت ديني له كقوله (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)(٤) الآية (٥).
(وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢))
(وَوَصَّى) وقرئ «وأوصى» (بِها) أي بالملة وهي السنة الحنيفية أو بكلمة الإخلاص وهي «لا إله إلا الله» (إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) الثمانية ، وأصل الوصية الإيصال إلى الغير بالوعظ ، قوله (وَيَعْقُوبُ) مرفوع عطف على (إِبْراهِيمُ) ، أي وأوصى يعقوب بنيه الاثنى عشر فقال (يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى) أي اختار (لَكُمُ الدِّينَ) أي الإسلام (فَلا تَمُوتُنَّ) أي لا يصادفكم الموت (إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [١٣٢] أي مخلصون بالتوحيد ، وهذا نهي عن الموت في الظاهر وفي الحقيقة عن ترك الإسلام ، إذ الموت ليس في أيديهم وذلك حين دخل يعقوب مصر فرأى أهلها يعبدون الأصنام ، فأوصى بنيه بأن يثبتوا على الإسلام.
(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣))
قوله (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) نزل حين قالت اليهود للنبي عليهالسلام : ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه يوم
__________________
(١) من ، س : ممن ، ب ، بمن ، م.
(٢) نقله عن السمرقندي ، ١ / ١٥٩.
(٣) انظر البغوي ، ١ / ١٥٩. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.
(٤) الأنعام (٦) ، ٧٩.
(٥) الآية ، ب م : ـ س.