(قِبْلَتَهُمْ) وإن كانت لكل طائفة قبلة لاتحادها في البطلان ، ثم أشار إلى أنهم مفترون فيما بينهم وإن كانوا متفقين في مخالفة النبي عليهالسلام بقوله (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) لأن كلا منهم يعتقد أن الحق دينه ، فكيف ترجو أن يتبعوك ويصلوا إلى قبلتك (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ) على سبيل الفرض أو المراد غيره بالخطاب (أَهْواءَهُمْ) أي مرادهم ومذهبهم بالصلوة إلى قبلتهم (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ) أي وصل إليك (مِنَ الْعِلْمِ) أي من البيان باليقين أن دينك هو الحق والكعبة هو القبلة (إِنَّكَ إِذاً) أي حينئذ (لَمِنَ الظَّالِمِينَ) [١٤٥] أي الضارين بنفسك.
(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦))
قوله (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) نزل حين قالت اليهود لأصحاب النبي : لم تطوفون بالبيت المبنى على الحجارة؟ فقال النبي عليهالسلام : «الطواف بالبيت حق» (١) ، وإنكم تعلمون ذلك بالتورية فجحدوا.
فقال تعالى : الذين أعطيناهم التورية (يَعْرِفُونَهُ) أي أن الطواف حق والبيت قبلة (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) يعني لا تشتبه عليهم ، وقيل : الضمير يرجع إلى محمد (٢) ، أي يعرفون أنه نبي حق بما علموا في كتابهم كما يعرفون أبناءهم بين الغلمان ، واختص ذكر الأبناء ، لأن الذكور أشهر وأعرف عندهم ، قال عبد الله بن سلام : «والله لقد عرفت محمدا أشد معرفة مني با بني ، لأن نعته في كتابنا ، وما أدري ما أحدثت النساء بعدي» ، فقال عمر : «أقر الله عينيك يا عبد الله» (٣)(وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ) أي من معانديهم وجهلتهم (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ) ليسترون أمر القبلة (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [١٤٦] ذلك.
(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧))
ثم قال تعالى يا محمد (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي أمر القبلة الذي (٤) يكتمونه هو من الله ، فهو مبتدأ وخبر أو التقدير : ما جاءك من العلم هو الحق و (مِنْ رَبِّكَ) خبر بعد خبر أو حال ، أي كائنا من الله (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [١٤٧] أي الشاكين فيما أخبرت لك به.
(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨))
(وَلِكُلٍّ) أي من أهل الأديان المختلفة (وِجْهَةٌ) أي جهة يتوجه إليها وهي (٥) القبلة (هُوَ) أي كل منهم (مُوَلِّيها) بكسر اللام ، أي مستقبلها أو هو مصرفها وجهه أو الله موليها إياه فهو راجع إلى الله ، من وليته ووليت إليه بمعنى أقبلت عليه أو صرفته إليه ولو عدي ب «عن» نحو وليت عنه كان بمعنى أدبرت عنه ، بفتح اللام المشددة مع الألف (٦) ، أي كل واحد منهم مولاها ، أي مولى تلك الجهة ، يعني الله يوليه إليها لا غيره ، قوله (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) خطاب لأمة محمد عليهالسلام ، أي لكل منكم جهة يصلي إليها شرقية أو غربية أو جنوبية أو شمالية بحسب اختلاف الآفاق فبادروا بالأعمال الصالحة (أَيْنَ ما تَكُونُوا) أنتم وأعداؤكم (يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) أي يجمعكم يوم القيامة فيجازيكم بأعمالكم (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [١٤٨] يقدر على جمعكم ثمه.
(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩))
قوله (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) تأكيد لأمر النسخ ليعلم أن ذلك عزيمة لا يجوز تركها ، أي أي مكان ذهبت
__________________
(١) قاله مقاتل ، انظر السمرقندي ، ١ / ١٦٦.
(٢) أخذه المفسر عن السمرقندي ، ١ / ١٦٦.
(٣) انظر السمرقندي ، ١ / ١٦٦ ؛ والبغوي ، ١ / ١٧٤.
(٤) الذي ، ب م : التي ، س.
(٥) وهي ، س م : وهو ، ب.
(٦) «موليها» : قرأ ابن عامر بفتح اللام وألف بعدها والباقون بكسر اللام وياء ساكنة بعدها. البدور الزاهرة ، ٤٢.