يأمر وينهى ولا يتأذى مما يسمع عليه من المكروه.
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣))
ثم أمرهم بالتوحيد والطاعة وترك الشرك وعبادة الأوثان بقوله (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى) أي استولى وعلا (عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي يقضي أمر الخلق بأن يرزقهم في الدنيا مدة حياتهم وبأن يحاسبهم في الآخرة على أعمالهم من الخير والشر (ما مِنْ شَفِيعٍ) يشفع لأحد يوم القيامة (إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) في الشفاعة ، وهو نزل ردا لزعم الكفار بأنهم كانوا يقولون عند عبادتهم الأصنام ، والملائكة هم شفعاؤنا عند الله (١)(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) أي الذي يفعل هذه الأشياء من خلق الأجرام العظام وتدبير الخلق فيهن ، هو خالقكم ورزقكم الذي يستحق العبادة منكم (فَاعْبُدُوهُ) أي وحدوه وأطيعوه دون غيره (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [٣] بالتشديد والتخفيف (٢) ، أي أتغفلون عنه فلا تتعظون بتذكيره لئلا تعبدوا من لا يقدر على شيء ولا يملكه.
(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤))
(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) أي إلى الله مصيركم يوم القيامة (جَمِيعاً) أي مجموعين لا إلى غيره للحساب والجزاء (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي وعدكم الله الرجوع إليه وعدا كائنا بالصدق (إِنَّهُ) استئناف بالكسر في معنى التعليل تحقيقا للرجوع إليه ، أي لأن الله (يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أي يخلقهم ابتداء (ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي يحييهم بعد الموت (لِيَجْزِيَ) أي ليثيب (الَّذِينَ آمَنُوا) بالبعث بعد الموت (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل ، ففيه تفضيل المؤمنين على الكافرين ، يدل عليه قوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) أي من ماء حار شديد الحرارة (وَعَذابٌ أَلِيمٌ) أي وجيع (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) [٤] برسالة محمد والكتاب الذي معه.
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥))
ثم أخبر عن عظيم قدرته وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة التي توجب لهم أن لا يعبدوا غيره بقوله (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) جمع ضوء كسوط وسياط أو مصدر وصف به ، فياؤه من الواو لانكسار ما قبلها ، أي جعلها ذات ضياء بالنهار ، وقرئ بهمزتين بينهما ألف (٣) ، ووزنه فلاع بالقلب المكاني (وَالْقَمَرَ نُوراً) أي ذا نور بالليل ، والضياء أقوى من النور وأثبت وأنفع ، لأن الشمس تضيء بالذات دون القمر (وَقَدَّرَهُ) أي وقدر له (مَنازِلَ) أو جعله ذا منازل ، ولم يقل قدرهما اكتفاء بذكر أحدهما ، فان المنازل تنصرف (٤) إليهما وقيل : تنصرف إلى القمر خاصة ، لأن بالقمر يعرف انقضاء الشهور والسنين لا بالشمس ، وينزل القمر كل ليلة منزلا من منازله التي هي ثمانية وعشرون منزلا فيستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين ويستتر ليلة واحدة إن كان الشهر تسعة وعشرين فيكون انقضاء الشهر مع نزوله تلك المنازل ، ويكون مقام الشمس في كل منزل لها ثلاثة عشر يوما فيكون انقضاء السنة مع انقضاء تلك الأيام في كل منزل لها (٥) ، فقوله (لِتَعْلَمُوا) علة لتقدير منازل القمر ، أي قدر الله المنازل للقمر لتعرفوا بذلك (عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي حساب الشهور والأيام والساعات (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ) أي التقدير أو المذكور لا الأعيان وإلا لقال تلك (إِلَّا بِالْحَقِّ) أي ملتبسا بالحق الذي هو الحكمة البالغة ،
__________________
(١) لعله اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٨٨ ؛ والبغوي ، ٣ / ١٣٧.
(٢) «تذكرون» : خفف الذال حفص والأخوان وخلف ، وشددها الباقون. البدور الزاهرة ، ١٤٢.
(٣) «ضياء» : قرأ قنبل بهمزة مفتوحة بعد الضاد ، والباقون بياء مفتوحة في موضع الهمزة. البدور الزاهرة ، ١٤٢.
(٤) تنصرف ، ب س : ينصرف ، م.
(٥) اختصره من البغوي ، ٣ / ١٣٨.