حال من الفاعل (وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) [١١٧] أي موحدون مطيعون ، والجملة في محل النصب على الحال من المفعول ، واللام في (لِيُهْلِكَ) لتأكيد النفي الداخل على «كان» ، يعني استحال في الحكمة أن يهلك الله القرى ظالما لها وهم مصلحون في أعمالهم ، ولكنه يهلكهم بكفرهم وركوبهم السيئات ، وقيل : معناه أنه لا يهلكهم بكفرهم وأهلها عادلون فيما بينهم ولا يظلم بعضهم بعضا ، وإنما يهلكهم إذا تظالموا (١).
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨))
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) مشية قسر وإلجاء (لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) أي لخلق كلهم مكرمين بدين واحد ، وهو دين الإسلام بالاضطرار ولكنه علم أن بعضهم ليسوا بأهل لذلك فلم يضطرهم إلى الاتفاق على دين الحق (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) [١١٨] على أديان شتى من نصراني ويهودي ومجوسي ومشرك ومسلم ، لأن الله تعالى مكنهم من الاختيار الذي هو أساس التكليف ، فاختار بعضهم الباطل وبعضهم الحق فاختلفوا.
(إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩))
(إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) أي إلا ناسا هداهم الله ولطف بهم بتأييده فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه (وَلِذلِكَ) أي وللاختلاف (٢) الذي ينشأ من تمكين الاختيار (خَلَقَهُمْ) ليثيب مختار الحق ويعاقب مختار الباطل فيكون فريق في الجنة وفريق في السعير ، وقيل معناه : «وللرحمة خلقهم» (٣) ، يعني للإسلام والعبادة التي هي سبب الرحمة ، قال تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(٤)(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي سبق حكمه في علمه ووجب للمختلفين في دينه بكفرهم وهو (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [١١٩] لعلمه بكثرة من يختار الباطل ويترك الحق.
(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠))
(وَكُلًّا) أي كل نبأ ، فالتنوين عوض من المضاف إليه (نَقُصُّ عَلَيْكَ) أي نبين لك (مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ) أي من أخبارهم وأخبار أممهم ، وهو بيان لكل (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) أي الذي نقوي به قلبك من الاضطرار ، وهو بدل من «كلا» ، يعني نحن نقص عليك كل ما تحتاج إليه من أخبار الأنبياء وأممهم مما نثبت به قلبك لنزيدك يقينا وطمأنينة ، لأن تكاثر الشواهد والأدلة أثبت للقلب وأرسخ للعلم ولو ذكرت مكررة ، لأن النبي عليهالسلام إذا سمعها كان في ذلك تقوية في قلبه على الصبر على أذى قومه (وَجاءَكَ فِي هذِهِ) أي في سورة هود أو في هذه الأنباء المقتصة (الْحَقُّ) أي ما هو الحق من الأحكام والعلوم المتعلقة بالنبوة فاعمل به ومن تاب معك وإنما خص هذه السورة تشريفا لها وإن كان قد جاءه الحق في جميع السور (وَمَوْعِظَةٌ) أي وجاءك تأدبة (وَذِكْرى) أي وتذكرة وعبرة (لِلْمُؤْمِنِينَ) [١٢٠] أي الموحدين المطيعين لله ورسوله.
(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢))
ثم قال تهديدا لكفار مكة (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) بالله ورسوله (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي على جهتكم وقوتكم التي أنتم عليها في أمرنا (إِنَّا عامِلُونَ) [١٢١] في أمركم (وَانْتَظِرُوا) بنا الدوائر (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) [١٢٢] أن يحل بكم العذاب كما حل بأشباهكم.
__________________
(١) لعله اختصره من البغوي ، ٣ / ٣٤٩ ـ ٣٥٠.
(٢) وللاختلاف ، ب م : وللاختيار ، س.
(٣) عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك ، انظر البغوي ، ٣ / ٣٥٠.
(٤) الذاريات (٥١) ، ٥٦.